تلاعب الإعلام
"تتلاعب الفضائيات بآراء المشاهدين بشكل غير مباشر"
ليس جديداً الحديث عن الدور الجهنمي الذي يلعبه الإعلام في تشكيل مواقف الشعوب، وتوجيه الرأي العام نحو اتجاهات محددة. لكن الانتباه إلى مخاطر هذا الدور تراجع كثيراً مع تقدم وسائل الاتصال.
حيث ارتفعت شعارات السماوات المفتوحة والحروب المذاعة على الهواء. فسادت حالة من الركون والاعتمادية على تنوع وسائل الاتصال والإعلام وتعددها. على حساب التدقيق والتروي قبل تصديق ما تبثه تلك الوسائل والتأثر به.
في الماضي، كان الإعلام يعتمد على احتكار المعلومة، والتحكم في الرسالة الموجهة للمتلقي، من دون حاجة إلى إتقانها، أو بذل جهد لإقناع الجمهور بها. خصوصاً إذا كان ذلك الجمهور مهيأ مسبقاً لتلك الرسالة المزيفة. والمثال الأكبر على ذلك دور إذاعة "صوت العرب" الذي انتهى، وهو في ذروة التزييف والكذب، بإعلان إسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية، حتى انكشفت حقيقته في 1967.
مع انتشار الإعلام الخاص، واتساع نطاق الفضائيات، لتخاطب وتشاهَد في كل دول العالم، تطور دور الإعلام من تقديم المعلومة، أو إقناع المتلقي بالخبر، إلى دفعه نحو تبني موقف معينٍ، بشأن ذلك الخبر الذي ربما وصل إلى المتلقي من مصادر أخرى، في ظل انتشار الإنترنت، وتعدد أدوات متابعة الأحداث.
ومن ثم، لم يعد التنافس بين وسائل الإعلام على السبق أو الانفراد، وإنما على التأثير والتوجيه. وهو ما نجحت فيه إلى حد بعيد "البرامج الحوارية"، كأداة مباشرة لتشكيل وبناء رأي عام تجاه قضايا وتطورات. لكن، بعد سنوات من تضخم تأثير البرامج الحوارية وتعددها، أصيب المشاهد بالملل والرأي العام بالتشبع.
فبدأت وسائل الإعلام، الفضائيات خصوصاً، بالتلاعب بآراء المشاهدين بشكل غير مباشر. ليس فقط بالطرق التقليدية، مثل اجتزاء الأخبار وتوظيف صور ومشاهد منتقاة لخدمة الرسالة المطلوب بثها.
لكن، أيضاً، باستخدام صياغات وتسميات مخادعة، تكشف بدورها الترابط والتنسيق العالي بين تلك الفضائيات ومؤسسات الحكم. منها إطلاق مسمياتٍ، مثل "الجيش الوطني" أو "الجيش الحر" على قوات محل دعم وتأييد، مقابل "ميليشيات" أو "متمردين" أو "إرهابيين" على الخصوم. في حين تطلق وسائل إعلام أخرى أوصافاً عكسية، فيصير الإرهابيون "ثواراً"، بينما الجيش "الوطني" جماعة متمردة أو قوات انفصالية.
وهكذا صار عدوان إسرائيل على غزة "حرباً"، أو "عملية عسكرية"، بينما رد المقاومة بات "أعمالاً عدائية"، أو في الحد الأدنى "عنفاً فلسطينياً".
مرّ الإعلام العالمي بهذه المرحلة في سبعينيات القرن الماضي، عندما كان يطلق على نشاط المقاومة الفلسطينية عمليات "فدائية" تارة، و"إرهاباً" تارة أخرى. قبل أن تظهر أخيراً تعبيرات "الجهاد" و"الاستشهاد". ولا تزال مؤسسات إعلامية معروفة بانحيازاتها تمارس ليّ الحقائق، وتطلق توصيفات باطلة.
بينما نجحت كيانات إعلامية، مثل "بي بي سي"، في تجاوز هذا التسييس باستخدام أوصاف ومصطلحات محايدة. أما الإعلام العربي، فها هو يعود إلى مرحلتي الستينيات والسبعينيات.
لكن، لأن اختلاق أنباء، أو إخفاء حقائق، لم يعد ممكناً لوجود وسائل وأدواتٍ، لا حصر لها لمتابعة الأحداث، يلجأ الإعلام العربي (ومعظمه تابع مخلص للمواقف الرسمية) إلى تجميل أو تشويه الحقائق، حسبما تقتضي الحاجة.
بهدف التحكم في اتجاهات الرأي العام بصورة ضمنية، من دون توجيه اتهاماتٍ، أو شن هجوم إعلامي صريح على هذا الطرف أو ذاك. والمفارقة أن الإعلام الذي كان يسمي العنف واستخدام السلاح "تظاهراً" هو نفسه الذي يسمي حالياً المسيرات السلمية تخريباً وإرهاباً.
وبينما ما يجري، مثلاً، في سورية أو في العراق ثورة نقية، على الرغم من وجود داعش و"النصرة" وغيرهما من جماعات جهادية، بل وتكفيرية، فإن مقاتلي خليفة حفتر في ليبيا يسعون إلى إنقاذ ليبيا من "الإرهاب الإسلامي". كما أن قطع الطرق وإشعال الإطارات تخريب، إن كان في مصر أو البحرين، بينما هو تظاهر ومعارضة، عندما يحدث في تركيا أو تونس.