تقزم الأطفال في سورية...تداعيات الحرب تفاقم من انتشار المرض

تقزم الأطفال في سورية... تداعيات الحرب تفاقم من انتشار المرض

27 يناير 2020
مرض التقزم ينتشر في الشمال السوري (Getty)
+ الخط -

اكتشف الثلاثيني السوري علي شحود، سبب عدم نمو طفله ربيع، عقب 3 أشهر من البحث المضني عن السبب لدى الأطباء، ما تطلب إجراء الكثير من التحاليل والأشعة في مختبرات مدينته سرمدا شمالي إدلب، ليتأكد من أن نجله ذا السبعة أعوام يعاني نقصا في هرمون النمو (Growth Factor Deficiency) منذ عام ونصف العام، ما جعل عمر عظامه في حدود خمس سنوات فقط، الأمر الذي يجعله أقصر من أقرانه، كما يقول لـ"العربي الجديد".

حالة ربيع واحدة من بين 1000 مريض يعانون بسبب نقص هرمون النمو في الغدة النخامية، كما يقول أخصائي الغدد ورئيس سابق للجنة معالجة فشل النمو في مديرية الصحة السورية، محمد رائد الحمدو، والذي يعمل في الشمال السوري منذ عام 2015، كما يقول لـ"العربي الجديد"، وهو ما تؤيده إفادة الدكتور محمد زاهد، مدير منظمة أطباء عبر القارات PAC (تعنى بتقديم الخدمات الصحية والغذائية في الدول التي تعاني من الكوارث والحروب)، مشيرا إلى أن تقريرا مسحيا أجرته منظمته في إبريل/نيسان الماضي في مناطق "إدلب، غرب حلب، شمالي حماة عفرين والفرات"، وتبين من خلاله زيادة نسبة الأطفال الذين يعانون من التقزم من 14.2% في عام 2017 إلى 17.4% في عام 2019.

وتتراوح أعمار الأطفال الذين يعانون من التقزم بين 6 أشهر و59 شهرا، بنسبة 19.4% من العينة المرصودة، لكن التقزم بلغ ذروته عند الأطفال بين الفئة العمرية 18 و29 شهرًا، بنسبة 23.1%، بحسب التقرير ذاته كما يقول زاهد.


لماذا تزايدت حالات القزامة؟

يميّز الدكتور زاهد بين التقزم الهرموني الناجم عن نقص هرمون النمو، وبين مرض نقص النمو، والتقزم المكتسب الناتج عن أسباب سوء التغذية والأسباب النفسية المرتبطة بالحرب، مؤكدا أن وضع الأمهات، خاصة القاصرات المتزوجات، يساهم في توسيع نطاق الإصابات لدى الأطفال بالقزامة، نتيجة الواقع الاقتصادي والنفسي وأجواء الحرب، إذ أن الزوجات الطفلات غير مكتملات فيسيولوجيا، وغالبا ما يعانين من الإهمال وسوء التغذية أثناء الحمل والولادة، فضلا عن عوامل الخوف والحزن والاحباط والنزوح والحصار، يصاب أطفالهن بالمرض، وفق قوله.

ووفقا للتقرير المسحي لمنظمة أطباء عبر القارات، فإن 46.2% من النساء اللاتي لديهن أطفال دون سن الخامسة متزوجات قبل سن 18 سنة، الأمر الذي يجعل من الزواج المبكر أحد العوامل المساهمة في تقزم الأطفال. وارتفعت نسبة زواج القاصرات في سورية من 7% قبل عام 2011 إلى 14% في عام 2015، وترتفع النسبة في المخيمات إلى 30%، وفق تقرير صادر عن منظمة النساء الآن في 27 يونيو/حزيران 2018.

ويعد تأخر النمو داخل الرحم، وعدم كفاية التغذية لدعم النمو والتطور السريع للرضع والأطفال الصغار والالتهابات المتكررة خلال الحياة المبكرة، من الأسباب الرئيسية للتقزم، وفق ما جاء في تقرير منظمة أطباء عبر القارات.

إضافة إلى ما سبق، تكشف دراسة الماجستير المعنونة بـ"أسباب قصر القامة عند الأطفال"، للباحثة السورية الدكتورة روان تمو، المختصة في أمراض الغدد الصم والاستقلاب بكلية الطب البشري في جامعة دمشق، عن 4 أسباب رئيسية تم الوصول إليها، بعد العمل على حالة 203 أطفال، من بينهم 120 ذكرا و83 أنثى، أعمارهم بين 5 سنوات و15 عاما، وكلهم يعانون من تأخر النمو بنسب متفاوتة، واستحوذ عامل تأخر النمو البنيوي على نسبة 32.5% من الأسباب، وجاء سوء التغذية بنسبة 24.6%، وقصر القامة العائلي بنسبة 20.2%، وقصور الدرق البدئي بنسبة 7.9%.



معاناة من أجل توفير العلاج

حصلت معدة التحقيق على قوائم عبر منتدى "أسعى" الإنساني (تجمّع لمتطوعين عاملين في المجال الطبي بالشمال السوري) تضم 300 حالة موثقة لأطفال مصابين بالمرض، بعضهم ينتظرون العلاج، ومنهم عبد الرحمن (10 سنوات) وماسا عامر جراد (13 عاما).

ويحتاج طفلا الثلاثيني جراد، واللذان أصيبا بنقص هرمون النمو قبل 4 سنوات، إلى 6 حقن من علاج الأتروبين Eutropin أسبوعيا، كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفا أن سعر الحقنة الواحدة يصل إلى 8 آلاف ليرة سورية (حوالي 18 دولارا أميركيا)، فضلا عن احتياجه لعدد من الأدوية والمقويات الأخرى ومبلغ خاص يجب أن يدخره لشراء نوعية خاصة من الطعام يجب توفيرها لهما، بقيمة تصل حتى 65 ألف ليرة سورية (149 دولاراً) شهريا، لكنه لا يستطيع تأمين ربع المبلغ في بعض الأشهر، بسبب الانتقال والنزوح المستمر وضعف الإمكانات.


ويشاركه المعاناة عمار طه زيدان، والد الطفلة تبارك، من بلدة النيرب جنوب شرقي مدينة حلب، والذي اضطر إلى قطع الدواء عنها بسبب نزوحهم وعدم قدرته على تأمينه، وهو حال وئام خالد الأطرش (4 سنوات) التي لم تستطع عائلتها علاجها لذات الأسباب.


معاناة الحالات السابقة دفعت منتدى "أسعى" إلى إطلاق حملتين باسم (أتروبين1 وأتروبين2) في بلدة دركوش بمحافظة إدلب ومخيمات أطمة والدانا شمالي سورية، الأولى في 5 فبراير، والثانية في يونيو 2019، في محاولة لجمع تبرعات لعلاج الحالات، واستطاع فريق الحملة خلال الحملتين توفير علاج لـ 210 أطفال مصابين من أصل 300 حالة موثقة لديه، كما يقول لـ"العربي الجديد" أحمد أبو الحسن، المنسق العام للمنتدى، مضيفا أن هدف الحملتين هو التعريف بالمرض وتشجيع المنظمات على المساعدة وإدراجه ضمن برامج الاستجابة لديها.

وبلغت تغطية نفقات العلاج، 100 ألف دولار لـ 100 حالة، لكنها تكفي لـ 3 أشهر فقط، بحسب أبو الحسن، مؤكدا أن كل تأخير في العلاج يحرم الأطفال من فرص الشفاء، وتتطلب رحلة العلاج عددا كبيرا من حقن Eutropin والتي تستمر غالبا إلى سن البلوغ، إضافة إلى نظام غذائي صحي متكامل بحسب الدكتور الحمدو، مؤكدا أن رحلة تشخيص المرض لا تنتهي بمجرد التأكد من الإصابة به والحصول على وصفة العلاج، فالتشخيص يتطلب استقصاءات شعاعية لتحديد العمر العظمي للطفل المصاب، إضافة إلى الرنين المغناطيسي لتحديد حالة الغدة النخامية ومن ثم التحاليل الهرمونية التخصصية، وتصل قيمة التكلفة المخبرية للتحليل الهرموني وحدها إلى 20 ألف ليرة (46 دولارا) كما يقول.

لكن حسن العبد الله، النازح المقيم في مخيم النصر شمال قاح في إدلب، يعجز عن توفير 12 إبرة شهريا لابنه عبد الحميد (12 عاما) يتطلبها علاجه لمدة عامين، قائلا لـ"العربي الجديد": "أعيش تحت الصفر مع عائلتي في هذه الخيمة، لا نملك شيئا، ولا أعرف كيف أطعمهم. فكيف أسعى إلى علاجه".



تردي الوضع الصحي
 

يعاني أهالي الشمال السوري من نقص حاد في الموارد البشرية الصحية والدوائية، بحسب إفادة الدكتور منذر خليل، مدير صحة إدلب، والذي قال لـ"العربي الجديد": "يوجد عامل صحي واحد لكل ألف مواطن، فيما تحتاج محافظة إدلب إلى حوالي 3 آلاف عامل صحي".

وتعمل صحة إدلب عبر برامج محلية بسيطة لمواجهة حالات القزامة الناجمة عن نقص الهرمونات وسوء التغذية، في المراكز الصحية والمشافي، أو من خلال عمال الصحة المجتمعية أثناء زياراتهم للمنازل والمسوحات العامة التي يقومون بها، كما يقول خليل. ويتم تحويل حالات نقص هرمون النمو إلى المراكز الطبية التخصصية، وتجري محاولات لتأمين علاجات فردية لهم عبر مانحين ومنظمات، وفق خليل.


لكن النازح العبد الله يتهم المنظمات العاملة في الشمال السوري بالتخلي عن واجبها تجاه الأطفال ممن يعانون من القزامة، قائلا: "لم أترك بابا لمنظمة أو مركز صحي إلا وطرقته، لطلب المساعدة، ولكن دائما ما يأتيني الجواب بأن علاج هذا المرض غير مدرج ضمن برامجنا فهو مكلف وطويل".

ويرد الدكتور معن كنجو، منسق برنامج الرعاية الصحية الأولية في منظمة الأوسوم (اتحاد لمجموعة منظمات طبية إنسانية) قائلا لـ"العربي الجديد": "تعمل المنظمات الصحية وفق مبدأ الأولويات، وتركيزها يكون على الأمراض المعدية والمهددة للحياة وكذلك اللقاحات، وهذه أمور أقل كلفة، لكن تأثير غيابها يهدد مئات آلاف الأطفال"، مضيفا أنه يُنظر إلى هذا المرض على أنه ذو كلفة علاجية عالية وحاجة إلى متابعة واستقصاءات ومسوح إحصائية غير متوفرة. ولفت إلى أن منظمته العاملة في الشمال السوري لم تفرد بعد أي نقاش حول هذا المرض، كما لم تدرس إمكانية توفير علاج مجاني له، معتقدا أن هذا حال جميع المنظمات المعنية بالشأن الطبي في سورية.

ما السبيل لاحتواء المرض؟

توقفت المُسوح الإحصائية الخاصة برصد الحالات الخاصة بالقزامة، وتوزعها وعلاجها، وفق الدكتور الحمدو، رغم أهمية إجراء عمليات مسح كاملة تقودها جهة واحدة في كل المناطق، لتحديد حجم المشكلة، والتوجه لحلها، ووضعها على طاولة المنظمات والمانحين.

ويحتاج المرض إلى إمكانات دولة، أو منظمات عالمية معنية بالعون الطبي الواسع، ليتسنى مواجهته، حسب ما قاله الحمدو، والذي لفت من خلال عمله السابق في وزارة الصحة السورية حتى عام 2013، إلى أنها كانت تقدم نسبة مهمة من العلاج مجانا، مع إمكانية إجراء بعض الاستقصاءات الشعاعية في المشافي العامة المجانية أيضا، لكن الأمر توقف بعد عام 2013 في جميع المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، مؤكدا أن لجنته زودت الوزارة بجميع الحالات الجديدة والتي بدأت تتضاعف بشكل لافت منذ العامين 2014، و2015، بيد أنها تجاهلت تقديم أي علاجات، وبقيت هذه المهمة من دون متابعة سوى من بعض المتطوعين.