01 أكتوبر 2018
تقدمية التخلف
ما أن اندلعت ثورات الربيع العربي حتى انطلقت موجة التحليل والتحريم، في كل حدب وصوب، لتقسم البلدان إلى صنفٍ، تصح فيه الثورات، وآخر تحرم فيه، فيما مبررات الانتفاضة، أو الثورة، موجودة، مع تفاوت الأولويات السياسية والاقتصادية، وخصوصية كل بلد عن آخر.
ويجد المتأمل بعمق للأشياء أن أنظمة البلدان التي صنف إسقاطها مبكراً من كبائر الذنوب أكثرها حاجة إلى التغيير الشامل، في كل مناحي الحياة، ولقد تعمدت، في كلامي، أن أتحاشى ذكر كلمة دولة، وسأستعمل، قدر المستطاع، بلداً أو نظاماً بدلاً منها، وجئت كذلك بمصطلحات دينية، في سياق سخرية من التناقض في مفهوم الدولة الثورية التقدمية، المضادة للرجعية بين الوهم والحقيقة، عندما يجدّ الجدّ، حيث لا تتوانى أجهزة هذه "الدولة" عن توظيف كل الخطابات الممكنة لشرعنة استمرارها، في الهيمنة على رقاب شعوبها، وإن ظلت سنواتٍ، تخدعهم بغشاوة من الشعارات البراقة، عن أنها الحامي المغوار للقيم التقدمية بإيحاء أن سقوطها يعني غرق الشعوب في أوحال التطرف والهمجية، على أن المتأمل سيجد أنها كانت، عقوداً، الراعي الوفي لها، من قتل روح المبادرة، والتجديد بداخل المجتمع، وتمييع منظومات التفكير والتعليم وتركيع الثقافة.
وهالة القدسية التي أحاطت بمكانة تلك الأنظمة المصنفة مستعصيةً على الثورات، لم يعد لها منطق متماسك، عندما اضطرت للدفاع عن نموذج "الدولة التقدمية"، بمبررات من المنبع نفسه، تحذر دائماً من أنها الأفضل، بالمقارنة به، علماً أن المنبع الآخر المتمثل في النجاحات التنموية والاقتصادية، أو النهضة العلمية والثقافية، بعيد عن المنال، بالنظر إلى فشلها الذريع في هذه المجالات. امتهنت نخب أسلوب التخويف ونشر الرعب من البديل دائماً، بدلاً من القيام بمهمتها في تنوير الوعي، وتحريك الجمود المتراكم، كحالة سلبية تستوجب التدخل، وقبلت بالانفصام عن المبادئ، والتخلي عن الدور النضالي بحجج واهية، كما راحت تزيّن الشكل القبيح لواجهات التخلف الذي يفتك بالشعوب العربية، خصوصاً في دول اعتبرت الثورات خطاً أحمر، لتبقى تقدمية التخلف في معزل عن أي تهديد، وقد صار لها جناحان متماسكان، أحدهما قمعي عبر السياسة والأمن والعسكرة، والآخر فكري استغلالي، تجسده السموم المنبعثة من أطروحات طبقة من المثقفين والأكاديميين المنهمكين في إيجاد الغطاء الأيديولوجي لاستمرار الوهم، أو، في أخف الحالات، بترويج إمكانية التحول من خلال القبول بالواقع الحالي.
لم يعد لهذه النخب أي دور قومي، أو لوني ثقافي، يمكن الاعتداد به، بل هي أقرب ما يمكن لنموذج الاسترزاق بالكلمة لدى مصالح أجنبية، ولعل أغلبية المثقفين العروبيين زوراً، المقربين من الخط الإيراني في المنطقة، أكثر من ينطبق عليهم هذا القول، يضاف إليهم بعضٌ من بقايا الليبرالية العربية التقليدية واليسار المتصلب الشعبوي. وهذه الإشارة النقدية لا يمكن التراجع عنها بأي حال، بالنظر إلى محصلة ما سببته هذه النخب من أضرار توعوية، وإبعاد للضمير العربي عن إدراك ما يجري من حوله، جعلت من عقله متعلقاً بصنم خشبي، يدعى الدولة، بينما بداية النهضة هي الإنسان ثم المؤسسات.
أغلبية البلدان العربية لا يصح أن يقال إنها دول، بالمفهوم المتداول عن مجموعة مؤسسات قوية ثابتة، تحرك القرار الداخلي، بالاستناد إلى الإرادة الشعبية، تمنحها السيادة أمام أي ضغط أجنبي. ما يوجد عندنا لا يعدو تكتل أجهزة متشابكة، تؤدي الوظيفة السلطوية من دون مرجعية، تستند إليها، باستثناء غريزة البقاء والاستمرارية، ومن أجلها تحتكر حصرية العنف المفرط والتحكم في الوعي الجمعي وطريقة توزيع الثروة، وبغلاف خارجي يروج تقدمية التخلف. في الجزائر مثلاً، تسلّمت الأجهزة زمام الأمور، منذ اللحظة الأولى، لاستقلالها وأجهض مشروع الدولة في مهده، وتطورت إثره منظومة الحكم، انطلاقاً من فلسفة "مجلس إدارة السلطة"، إذ لا مؤسسات عتيدة يمكن اللجوء إليها، بشكل ضامن ومستقل، لأن جميع عناصر القوة في الدولة المفترضة تتحرك بتوجيه السلطة.
في مصر، حتى وإن ظهرت، منذ البداية، مؤسسة عسكرية قوية، شكلت قالباً لنشوء الدولة، فمع الزمن، اكتشفنا عجزها عن عصرنة منظومة الحكم، مع كل تحدٍ تواجهه، فتغلغلها في مختلف المناحي جعلها تعيد إنتاج العقليات والأساليب نفسها، في كل مرة مع حماية مصالحها، انطلاقاً من الرابطة التي صنعتها مع الشعب. في هذه الحالة، اختزلت الدولة في مؤسسات عميقة ثابتة، وسلطة سياسية، متحولة في الشكل وليس المضمون، وشعب مخدر مشغول بهمومه الاقتصادية. هذه الأمثلة وأخرى، مثل سورية والعراق وليبيا، تكشف عن حتمية الانهيار في حالة سقوط السلطة الحاكمة، لأن هناك فراغاً مؤسساتياً رهيباً، والعلاقة مع الشعوب ليست في أحسن حالاتها، أو، على الأقل، لا يمكن التنبؤ بمصيرها.
حان الوقت لنسمي الأشياء بمسمياتها، ونقطع الصلة مع حقبة مظلمة من التاريخ العربي، ولنعطيَ إشارة الانطلاق للدولة العربية الحديثة الحقيقية، القادرة على صناعة الرقي والتقدم. وفي هذه الحالة، هي ليست في حاجةٍ إلى التغطية على التخلف بالشعارات التقدمية الجوفاء.
ويجد المتأمل بعمق للأشياء أن أنظمة البلدان التي صنف إسقاطها مبكراً من كبائر الذنوب أكثرها حاجة إلى التغيير الشامل، في كل مناحي الحياة، ولقد تعمدت، في كلامي، أن أتحاشى ذكر كلمة دولة، وسأستعمل، قدر المستطاع، بلداً أو نظاماً بدلاً منها، وجئت كذلك بمصطلحات دينية، في سياق سخرية من التناقض في مفهوم الدولة الثورية التقدمية، المضادة للرجعية بين الوهم والحقيقة، عندما يجدّ الجدّ، حيث لا تتوانى أجهزة هذه "الدولة" عن توظيف كل الخطابات الممكنة لشرعنة استمرارها، في الهيمنة على رقاب شعوبها، وإن ظلت سنواتٍ، تخدعهم بغشاوة من الشعارات البراقة، عن أنها الحامي المغوار للقيم التقدمية بإيحاء أن سقوطها يعني غرق الشعوب في أوحال التطرف والهمجية، على أن المتأمل سيجد أنها كانت، عقوداً، الراعي الوفي لها، من قتل روح المبادرة، والتجديد بداخل المجتمع، وتمييع منظومات التفكير والتعليم وتركيع الثقافة.
وهالة القدسية التي أحاطت بمكانة تلك الأنظمة المصنفة مستعصيةً على الثورات، لم يعد لها منطق متماسك، عندما اضطرت للدفاع عن نموذج "الدولة التقدمية"، بمبررات من المنبع نفسه، تحذر دائماً من أنها الأفضل، بالمقارنة به، علماً أن المنبع الآخر المتمثل في النجاحات التنموية والاقتصادية، أو النهضة العلمية والثقافية، بعيد عن المنال، بالنظر إلى فشلها الذريع في هذه المجالات. امتهنت نخب أسلوب التخويف ونشر الرعب من البديل دائماً، بدلاً من القيام بمهمتها في تنوير الوعي، وتحريك الجمود المتراكم، كحالة سلبية تستوجب التدخل، وقبلت بالانفصام عن المبادئ، والتخلي عن الدور النضالي بحجج واهية، كما راحت تزيّن الشكل القبيح لواجهات التخلف الذي يفتك بالشعوب العربية، خصوصاً في دول اعتبرت الثورات خطاً أحمر، لتبقى تقدمية التخلف في معزل عن أي تهديد، وقد صار لها جناحان متماسكان، أحدهما قمعي عبر السياسة والأمن والعسكرة، والآخر فكري استغلالي، تجسده السموم المنبعثة من أطروحات طبقة من المثقفين والأكاديميين المنهمكين في إيجاد الغطاء الأيديولوجي لاستمرار الوهم، أو، في أخف الحالات، بترويج إمكانية التحول من خلال القبول بالواقع الحالي.
لم يعد لهذه النخب أي دور قومي، أو لوني ثقافي، يمكن الاعتداد به، بل هي أقرب ما يمكن لنموذج الاسترزاق بالكلمة لدى مصالح أجنبية، ولعل أغلبية المثقفين العروبيين زوراً، المقربين من الخط الإيراني في المنطقة، أكثر من ينطبق عليهم هذا القول، يضاف إليهم بعضٌ من بقايا الليبرالية العربية التقليدية واليسار المتصلب الشعبوي. وهذه الإشارة النقدية لا يمكن التراجع عنها بأي حال، بالنظر إلى محصلة ما سببته هذه النخب من أضرار توعوية، وإبعاد للضمير العربي عن إدراك ما يجري من حوله، جعلت من عقله متعلقاً بصنم خشبي، يدعى الدولة، بينما بداية النهضة هي الإنسان ثم المؤسسات.
أغلبية البلدان العربية لا يصح أن يقال إنها دول، بالمفهوم المتداول عن مجموعة مؤسسات قوية ثابتة، تحرك القرار الداخلي، بالاستناد إلى الإرادة الشعبية، تمنحها السيادة أمام أي ضغط أجنبي. ما يوجد عندنا لا يعدو تكتل أجهزة متشابكة، تؤدي الوظيفة السلطوية من دون مرجعية، تستند إليها، باستثناء غريزة البقاء والاستمرارية، ومن أجلها تحتكر حصرية العنف المفرط والتحكم في الوعي الجمعي وطريقة توزيع الثروة، وبغلاف خارجي يروج تقدمية التخلف. في الجزائر مثلاً، تسلّمت الأجهزة زمام الأمور، منذ اللحظة الأولى، لاستقلالها وأجهض مشروع الدولة في مهده، وتطورت إثره منظومة الحكم، انطلاقاً من فلسفة "مجلس إدارة السلطة"، إذ لا مؤسسات عتيدة يمكن اللجوء إليها، بشكل ضامن ومستقل، لأن جميع عناصر القوة في الدولة المفترضة تتحرك بتوجيه السلطة.
في مصر، حتى وإن ظهرت، منذ البداية، مؤسسة عسكرية قوية، شكلت قالباً لنشوء الدولة، فمع الزمن، اكتشفنا عجزها عن عصرنة منظومة الحكم، مع كل تحدٍ تواجهه، فتغلغلها في مختلف المناحي جعلها تعيد إنتاج العقليات والأساليب نفسها، في كل مرة مع حماية مصالحها، انطلاقاً من الرابطة التي صنعتها مع الشعب. في هذه الحالة، اختزلت الدولة في مؤسسات عميقة ثابتة، وسلطة سياسية، متحولة في الشكل وليس المضمون، وشعب مخدر مشغول بهمومه الاقتصادية. هذه الأمثلة وأخرى، مثل سورية والعراق وليبيا، تكشف عن حتمية الانهيار في حالة سقوط السلطة الحاكمة، لأن هناك فراغاً مؤسساتياً رهيباً، والعلاقة مع الشعوب ليست في أحسن حالاتها، أو، على الأقل، لا يمكن التنبؤ بمصيرها.
حان الوقت لنسمي الأشياء بمسمياتها، ونقطع الصلة مع حقبة مظلمة من التاريخ العربي، ولنعطيَ إشارة الانطلاق للدولة العربية الحديثة الحقيقية، القادرة على صناعة الرقي والتقدم. وفي هذه الحالة، هي ليست في حاجةٍ إلى التغطية على التخلف بالشعارات التقدمية الجوفاء.
مقالات أخرى
22 يوليو 2018
03 ديسمبر 2017
08 اغسطس 2017