تفكّك الثقافة الوطنية الفلسطينية

تفكّك الثقافة الوطنية الفلسطينية

28 يونيو 2016

(محمد نصرالله)

+ الخط -
يُعتبر مفهوم الثقافة، عموماً، مفهوماً غامضاً، وهو ما ينطبق على "الثقافة الفلسطينية" التي يكتنفها الغموض أكثر من غيرها، بحكم الظروف التاريخية المعقدة والإشكالية التي ولدت في سياقها. فقد وُلدت الثقافة الفلسطينيّة الحديثة، كالوطنية الفلسطينية الحديثة، في المنافي، أي في جغرافيا ثقافاتٍ أخرى، أكان هذا في مخيمات اللجوء أم في عواصم دول اللجوء، حيث طُبعَ كل النتاج الثقافي الفلسطيني تقريباً، قبل ولادة السلطة الفلسطينية. ولئن أُطلقَ تعبير "اللاجئين" على حالة الفلسطينيين بعد النكبة، فقد كان التعبير، ومازال، مرذولاً من الفلسطينيين أنفسهم: فهم عاشوا الغياب بوصفه استمراراً للوجود في الوطن، وحملوا معهم الأسماء والذكريات وبعضَ الأشياء الصغيرة، فكان أن نقلوا ما يستطيعون نقله من الرموز، ليتحوّلوا أنفسهم إلى "بلاد تتنقّل" بحسب التعبير الجميل لإلياس صنبر الذي يشرح الحالة الفلسطينية بعد النكبة بقوله إن "ضياع الوطن عدّل جذرياً التشكيلة الثقافية الفلسطينية"، فبدل أن يشكل العام 1948 لحظة أصلية، شكل ربطاً مفصلياً، أكد بعض الجوانب الثقافية المحلية، لكنه تمخض عن أنماط تعبيرية جديدة، فإذا لـم يكن 1948 مؤشراً على ولادة ثقافة فلسطينية جديدة، فالمؤكد أن الفلسطينيين سيبدأون اعتباراً منه بالكلام أكثر من أي وقت مضى بصوت "شخصيّ" ونبرة جديدة، ويعبرون عن قلقهم الخاص، ينشدون أو يبكون القدر الذي صار قدرهم.
يولِّد المنفى قلق الانتماء بين مكان الوجود اليومي والمكان الذي أتى منه المرء وينتمي إليه، في ذلك التوزّع بين اليومي القائم والعاطفة التي تعيد إلى أماكن أخرى. كان على الفلسطيني أن يجترح معجزةَ العيش، أن يخترع وطناً، وجغرافيا، وثقافةً، وسياسة، وحياة، وصلات بين جموعٍ في دول مختلفة، ذلك لأنه عاش يومياً بما يذكّره بعدم انتمائه إلى المكان الذي يقيم فيه، وشكّل الضغط الخارجي القادم من الدول المضيفة، والمتمثل في عدم الرغبة بهم، عاملاً إضافياً لإنتاج "الغيتو الفلسطيني" (المخيم) والحفاظ على استمراره بأشكالٍ مختلفة.
وُلدت الثقافة الفلسطينية في أماكن الآخرين، إنها ثقافة المؤقت، الانتقالي إلى الطبيعي الذي لم يتوفر لهم. ولأن الظلم الذي عاشه الفلسطينيون كان من الكثافة بحيث حوّلهم إلى حالةٍ خاصةٍ لا تُقاس إلا بنفسها، فإنهم لم يستطيعوا سوى أن ينتجوا ثقافةً نقدية، منشقة، ثقافةَ الألم، ثقافةَ المرفوضين، المهمّشين، المكنوسين تحت السجادة في المنطقة، لكنها كانت ثقافة المؤقت أيضاً. ومن أراد من الفلسطينيين أن يُنتج ثقافةً تقليدية ومحافظة وتمالئ السلطان، كان عليه أن يلتحق بسلطات دول المنافي واللجوء ومؤسساتها. فالانتماء الفلسطيني (أو الإعلان عنه) كان انتماءً في وسط عربي رغماً عنه، وعربيته لم تنفِ غربته. كان يكفي أن تكون فلسطينياً حتى تكون متّهماً. لذلك، لم يكن غريباً أن تستقطب الحالةُ الفلسطينية جزءاً مهمّاً من كبار المثقفين العرب النقديين في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات؛ فقد شكّلت التجربة الفلسطينية الكفاحية تجربة اعتراضية ونقدية في الواقع العربي، بعد هزيمة 1967، وكانت موقعَ استقطاب للاتجاهات النقدية العربية.

دخلت هذه الحالة النقدية مسيرة التأقلم مع الواقع الإقليمي وأفق "الحل" الذي رسمت معالمه حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 التي كرست "الحل" المتوافق عليه دولياً وإقليمياً للقضية الفلسطينية على أساس نتائج هزيمة 1967. وهو ما دفع الحالةَ الفلسطينية الاعتراضية والنقدية إلى التأقلم مع الواقع الجديد، من خلال تعديل الخطاب السياسي الفلسطيني للتوافق مع الوقائع الجديدة. وترافق ذلك مع ترسيم منظمة التحرير الفلسطينية عضواً رسمياً في جامعة الدول العربية والنظام الرسمي العربي، ما أحدث تمايزاً داخل النخبة الفلسطينية: بين المتكيفين مع شروط النظام الرسمي العربي والرافضين هذا التكيّف المحافظين على الخط النقدي.
كان من الواضح أن منظمة التحرير تتحوّل إلى سلطةٍ في النظام السياسي الفلسطيني الذي وُلد بفعل الاعتراف الرسمي العربي وتكريس منظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني في منتصف السبعينيات. منذ ذلك الوقت، والتحول الذي جرى في مكانة المنظمة، أخذت الحالة الفلسطينية الاعتراضيّة تُحدث فرزاً داخل النخبة الثقافية الفلسطينية، وظهر خطاب سياسي وثقافي، يؤسس لتسويةٍ سياسيةٍ، ستأتي بأسوأ الحلول بعد عقدين في اتفاقيات أوسلو. أنتج النظام السياسي الفلسطيني، على الرغم من عدم امتلاكه جغرافيا خاصةً به، أو بسبب فقدان هذه الجغرافيا، ما يمكن تسميتها "قبيلة العمل السياسي الفلسطيني" التي تنقّلت ما بين الأردن ولبنان وتونس، لتعود إلى الأراضي الفلسطينية بعد اتفاقات أوسلو.
أمسكت هذه "القبيلة" بتلابيب القرار السياسي الفلسطيني منذ نهاية الستينيات. وإذا كان التمايز قد ظهر في السبعينيات والثمانينيات خلافاتٍ داخل الصف الوطني الفلسطيني الواحد (وصلت إلى الصدام المسلح في النصف الأول من الثمانينيات)، فقد كانت عودة "قبيلة العمل السياسي الفلسطيني" إلى الضفة الغربية وقطاع غزة عبر اتفاقات أوسلو انتقالاً إلى سلطةٍ معترفٍ لها على الأقل بالسيطرة على السكان. وفي اللحظة التي أصبحت "قبيلة العمل السياسي الفلسطيني" تسيطر على جزءٍ من الأرض الفلسطينية، وقبل أن تكتمل هذه السيطرة بدولةٍ وطنية، اكتمل تبلورُ المثقف التقليدي المحافظ في الساحة الفلسطينية، ليولد مع ولادة السلطة الفلسطينيّة ما سمّاه مريد البرغوثي "المثقف السعيد" المبرّر كل شيء، وفي ظل السلطة الذاتية، أصبحت هناك مواقع ووزارات ومؤسسات ثقافية عديدة لا تنتج أي ثقافة، تم من خلال ملء شواغرها شراء ذمم مثقفين وأشباه مثقفين عديدين. حدث ذلك، حين كانت الثقافة الفلسطينية النقدية قد دخلت مرحلة احتضارها، لا بالانفكاك عن السلطة والمنظمة فحسب، بل بالانفكاك عن جميع فصائل العمل الوطني الفلسطيني أيضاً.
تكمن أزمة الثقافة الفلسطينيّة في الفصام بين نتاجها التاريخيّ النقدي وواقعها اليوم، أو في الانفصال بين انتمائها النقدي وواقع السلطة التكيفي. فالثقافة الفلسطينية النقدية دافعت عقوداً عن فلسطين أخرى، فلسطين لا تشبه البقعَ السكانية التي يسمونها اليوم فلسطين، وتم استبدال فلسطين التي صاغتها ثقافة المنافي بفتات فلسطين. تفكّكت الثقافة الفلسطينية مع تفكّك المشروع الوطني الفلسطيني، ومع صناعة السياسة من أشباه القادة، وإنتاجِ الثقافة من أشباه المثقفين، في وطنٍ ينكر منتجي ثقافته في الشتات وداخل دولة إسرائيل. وذلك ذروة تفكك الثقافة الفلسطينية.




D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.