تفعيل اللغة ومتعلقاتها

تفعيل اللغة ومتعلقاتها

13 اغسطس 2019
+ الخط -
يسرقُ الزمن الوقت ويمضي بنا سريعاً مخلّفاً وراءه المزيد من الأوجاع والضياع والحيرة، ومخلّفات بات ينكرها المرء مع طول الوقت، وهذا ما صار يلوح في الأفق، وقريب من النمطية، ما يعني أنَّ الماضي من الصعوبة بمكان أن يعود إلى الوراء، ولكن من السهولة تذكّر أحزانه، وإن كان لأفراحه مكانتها، ويسهل استرجاعها في حال أردنا ذلك.

وهيهات، هيهات أن يضيق بنا ذلك الوقت في حال حاولنا استدراك حادثة بعينها، وإنما يتطلب أن نكون أكثر حذراً ووعياً وتعنتاً أحياناً، لا نقول جبناً فينا، ونحن نحاول أن نعود بالذاكرة إلى الوراء قليلاً.

وأقول إنَّ المكان الذي طالما ولدنا وترعرعنا فيه، يظل له ذكرياته، وأي ذكريات وإن كانت عادية، وفيها الكثير من عدم اللامبالاة لما لها من مكانة لدى من عايشها وتعايش معها.

ومن غير الممكن أن نقفز من فوق ذلك الزمن الذي مضى بنا سريعاً بهذه السهولة، لأنه يصعب تجاوزه، والإشارة إليه مهما كانت أحداث الحاضر سبق لها أن أخذت قسطاً وافراً من أيام الشباب وبعضاً من الشيخوخة الشابّة، التي يمكن أن نطلق عليها، ونصوغ ذلك بـ "بسمة الشباب"، هكذا يُخيّل إلينا!


شيخوخة الشباب هذه، وصلت أبناء جلدتنا سريعاً قافزةً فوق كل الحواجز والتوقعات، والأسباب كثيرة، وبات يعرفها ويعيشها معنا نخبة من الشباب المتقدّم في السنّ الذي عايش الكثير من المواقف، ما جعلته يثب وثبة طويلة متجاوزاً سنّه بكثير نتيجة صراع الواقع، والحال الذي يجود به، بروح الفريق الواحد ومعاناة هؤلاء حطّمت، بالتالي، نفسياتهم وحولتهم إلى أشلاء ظلّت بعيدة كل البعد عن أي شيء.

وتظل بعيدة عن سرّ الحياة، ومكنوناتها.. وبعيدة عن العمل، جوهر الحياة ودفئها، وبعيدة عن أسطوانة مغنّاة أراد لها ذاك الصديق والأخ والزميل والجار والقريب، أرادوها أن تُسمِع وتدوّي، وبصوتٍ مرتفع.

هكذا، أحب أن يرويها الشباب، وهكذا أرادوا لها أن تكون مدوية وبعفوية، بعيدة عن ترّهات التفاخر والتناحر، والبغض والتعاطي بسلوكات ما أنزل الله بها من سلطان.

سلوكات تُقهر الإنسان، وتحطّم كيانه، وتقيّد حركته، وتجعل منه أنشودة لحاضر بات يئن من سوداوية بغيضة، شبيهة بالدوّامة التي من غير الممكن تجاوزها!

ماذا عسانا أن نفعل حيال ذلك الاستعراض الذي لطالما بشّرنا بحياة جديدة، وبصبغة تحاكي الماضي التليد أولاً، والمستقبل الذي لا شك أنَّ له علاقة وثيقة به لأنه، بالتأكيد، هذا عرفٌ دارج، فمن ليس له ماض ليس له مستقبل؟

الماضي، مهما كان قاسياً وسوداوياً ومترهلاً ومجبولاً بالعفونة، يظل له حضوره، لأنه لا يمكن نسيانه أو تناسيه، ولا سيما أنّه مغموس بالحب والأمان والبساطة.

وعندما تطرقنا إلى ما تسمى "شيخوخة الشباب"، فنحن نتحدث عن الماضي والحاضر والمستقبل، والجهل الذي حولنا إلى نقطة الصفر.. وهذا ما يعني أنه بدأت خطوة الألف ميل نحو التسارع والإقدام، وأنه بحاجة لأن تلجم قبل أن تهدم ما بناه الإنسان خلال الفترة الممتدة من عمره، وأرادها أن تكون الخطوة الأولى، والرسم الأول لهذه الحياة على الرغم من استكانتها!

وإذا ما حاولنا أن نخلط الأوراق، وإن تجاوزنا حدودنا في طرح المشكلة، فإنّ الطفل الوليد فاقد اللغة، تراه مع مرور الوقت يتعلّم لغة المكان الذي عاش فيه، فضلاً عن اللهجة التي يتحدثون فيها وتختلف من مكان إلى آخر، وفي زمن متقدم من العمر، يجد الإنسان صعوبة بالغة تعلّم لغة ثانية، لأن الماضي يظل له تأثيره المباشر ومتعلّقاته في التمكّن من تفعيل دور اللغة، وأخذ مكانها في شخصيته وفي حياته، لذا فإنَّ "التعلّم في الصغر كالنقش على الحجر"، وهذا ما يجعل الكثير منا، ممن سنحت لهم فرصة السفر والاغتراب، سواء إلى أوروبا أو دول أميركا الشمالية أو الجنوبية، وكندا وغيرها من دول العالم، من الصعوبة بمكان إتقان لغة المكان الذي عاش فيه بسهولة، وفي حال تعلّم ذلك في سنّ متقدمة، بعض مفرداتها ما يجعل "اللكنة"، أو ما يعرف "بالأكسنت"، تراه يشذّ بعيداً، ويختلف في نطقها كليةً عن ابن البلد الذي ولد وترعرع وعاش فيه منذ الصغر، سواء لجهة دولة أجنبية أو حتى عربية.. وينطبق ذلك على المواطن الأجنبي الذي حاول تعلّم العربية، في سنّ متقدمة، وهذا ما يجعل هناك صعوبة بالغة في إتقانها، على عكس ابن البلد الذي يتقنها بحرفية عالية، كما يتقن لهجة المكان الذي عاش فيه، ومن الصعوبة إتقان لهجة مكان آخر غير الموطن الذي عاش فيه، وإن كانت لغته عربية، ومثالنا في ذلك: ابن مدينة الرّقة السورية، من الصعب عليه إتقان لهجة ابن الشام، أو ابن مدينة حمص، أو السويداء، وكذلك الحال بالنسبة لابن مدينة اللاذقية، يصعب عليه تعلم لهجة ابن مدينة حلب أو دير الزور، والعكس صحيح.

فالماضي والحاضر والمستقبل، وشيخوخة الشباب والتعلّم، كلّها أمور تظل مرتبطة بعامل الوقت والزمان والمكان، كما هو حال اللغة التي يظل ارتباطها بالواقع متجذراً، وهذا ما يمكن أن نغفل عنه أو أن نتجاوزه، لأن فيه الكثير من المصداقية التي نؤِل عليها المزيد من الجديد والمستقبل الذي لا يمكن أن نلغي عنه صفة التوقف، لأنه في تسارع دائم متجاوزاً كل الحدود.

دلالات

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.