تفريعة قناة السويس واقتصاد "الكارتة"

تفريعة قناة السويس واقتصاد "الكارتة"

06 اغسطس 2015
شتان بين اقتصاد "الكارتة " وبين اقتصاد النهضة والبناء(Getty)
+ الخط -
في إحدى حكايات والدي التي لم يتوقف عن سردها يوماً لثلاثة عقود من عمري، روى عن فترة شبابه في سبعينات القرن الماضي مع بدايات سكنه في القاهرة. كان أبرز ما يتذكره بخلاف الملامح العمرانية والمظهر الزراعي للحي، وجود عدد من المصانع الحكومية تحيط بالحي السكني بنيت في الستينيات، وأن أغلب سكان الحي كانوا عمالاً بالمصانع.


أكثر ما أكد عليه في روايته مرور موظفي المصانع على مقاهي المنطقة المحيطة للبحث عن راغبين في العمل الحكومي بها، لم تكن المصانع كثيفة العمالة مقارنة بمصانع الحديد والصلب والغزل والنسيج، ولكنها أيضاً كانت مناسبة جداً لتوفير فرص عمالة آمنة ومستقرة لمئات من شباب الحي.

تابعت عبر سنوات عمري ازدحام الحي بسكان جدد، واصطفاف الطوابير أمام أبواب المصانع طمعاً في فرصة عمل، وأتذكر الآن الحكاية من أولها عند مروري بالمصانع المختلفة الأنشطة والمجالات وقد قررت الدولة أن تحولها الى نشاط واحد بعد أن سرحت العمالة ونهبت الماكينات وخصخصت المباني، تحولت المصانع الخمسة إلى كراجات لسيارات أهالي المنطقة، وتحول العائد الاقتصادي منها إلى "كارتة" ركن السيارات.

رأى نظام المخلوع مبارك أن المصانع بعمالها ومصروفاتها تشكل عبئاً على ميزانية الدولة فقرر بيعها لأول مشتر، فقد كان النظام واضحاً في عدائه للقطاع العام، واعتبر الاستثمار طويل الأجل في تنمية صناعات كثيفة العمالة إهداراً للأموال العامة، لذلك أنفقت الدولة مليارات الجنيهات حصيلة بيع القطاع العام في إقامة الطرق والكباري ودعم القطاع العقاري طمعاً في سرعة دوران رأس المال، لتحقيق زيادة ملحوظة في معدلات النمو ومتوسط دخل الفرد.

تسبب غياب العدالة في توزيع حصيلة البيع في ظهور فجوات شاسعة بين طبقات المجتمع المستفيدة من طفرة ضخ الأموال وغيرها من الطبقات الأكثر فقراً، وانكشف العوار في أحدلث ثورة 25 يناير عندما تعرى الاقتصاد وهرب المستثمرون وتوقفت السياحة.

من جديد يكرر نظام السيسي أخطاء مبارك بشكل أكثر رعونة وغباء، فقد ألقى النظام مليارات المساعدات الخليجية في استكمال الطرق والكباري، كما اقترض 64 مليار جنيه بشهادات استثمارية من المواطنين لحفر تفريعة جديدة لقناة السويس.

ربما يكون السبب الرئيسي الذي دعا السيسي الى التفكير في مشروع القناة هو الإيراد المرتفع لرسم الطرق "الكارتة" التي وضع الجيش يده عليها، بالإضافة إلى الرغبة في إنجاز سريع يغطي الفشل السياسي والاقتصادي.

بالتأكيد البنية الأساسية ضرورية للاقتصاد ولكن كعامل مساعد يخدم الصناعة والزراعة ويسهل مهام النقل والمعيشة، لكن أن يتحول مشروع رصف طريق أو توسعة مجرى ملاحي إلى مشروع قومي ذاك هو الظلم المبين.

فلا يختلف كثيراً مشروع توسعة المجرى الملاحي للقناة وشق تفريعة جديدة، عن مشروع تطوير طريق مصر اسكندرية الصحراوي، ولن يحقق المشروع عائداً اقتصادياً سوى ارتفاع تدريجي في رسوم المرور بالقناة.

شتان بين اقتصاد يُبنى على استثمارات حقيقية في الصناعة والزراعة وبناء الفرد، واقتصاد يقوم على "الفهلوة" والربح السريع، شتان بين اقتصاد الطرق والكراجات اقتصاد "الكارتة " وبين اقتصاد النهضة والبناء.

حتى المقارنة بين مشاريع ناصر والسادات ومبارك في الوادي الجديد والصالحية وتوشكى ومشروع السيسي هي مقارنة ظالمة، فرغم فشل تنفيذ مشاريعهم إلا أن التفكير في تنمية منطقة بعينها وتحويلها إلى مركز زراعي وصناعي يجوز أن يكون مشروعاً قومياً، أما أن تعتبر مجرد شق طريق، وإن كان ملاحياً، مشروعاً قومياً فليس إلا بحثاً عن "لقطة".

(مصر)

المساهمون