تغريبة بلاد الرافدين والجرحين

تغريبة بلاد الرافدين والجرحين

07 يونيو 2016
انتقل النازحون الى أماكن بعيدة عن مسارح الاشتباكات (الأناضول)
+ الخط -

ما زال دجلة والفرات يتابعان جريانهما كما كانا منذ أيام ملحمة جلجامش، وهما لا يعبآن كثيراً بيوميات الحياة والصراعات السياسية وغير السياسية المندلعة. المياه المنسابة في المجريين لم تتوقف عن الانسياب نحو مياه الخليج العربي المالحة، هما كما الحياة لا يكترثان بتفاصيل ما يحدث.

في كل طور من الأطوار كانت تتضاعف أعداد اللاجئين والمهجرين. الطور الأخير يرتبط بنشوء وتوسع ما سمي دولة الخلافة الإسلامية في الشام والعراق وهو أوسع مما سبق. لم تستطع هذه "الخلافة" استيعاب الأقليات الطائفية والإثنية التي وقعت بين براثنها، وهكذا تمّ تهجير الايزيديين والمسيحيين والشبك والصابئة والمندائيين والشيعة والتركمان، ولم ينج السنة الذين كانوا يرون العراق دولة مدنية من هذا المصير.

من تبقى أحياء من تلك الجماعات حمل ما يستطيع وخرج لا يلوي على شيء. خصوصاً وأن الجيش تناثر كغبار في فضاء العراق ومعه قوى الأمن النظامية. ليس أقل من أربعة ملايين غادروا بيوتهم على عجل تاركين وراءهم كل ما جنته أيديهم من أشياء باتت بمثابة "غنائم" لهذه الدولة. لم تقف الأمور عند هذا الحد. القتال الذي نشب في أعقاب هذا التطور قذف بالمزيد من السكان نحو اللجوء والنزوح. عمليات التطهير الديني والأثني باتت مكشوفة، ومن مختلف الضفاف ودون أستار أو تمويه. وبالتأكيد كان التهجير يهدف إلى اعتماد هويات محددة للمناطق أساسها الطائفة والعرق.

هناك ما لا يقل عن أربعة ملايين عراقي من اللاجئين وضعفهم تقريباً من النازحين الذين انتقلوا الى أماكن بعيدة عن مسارح وميادين الاشتباكات. وكل سياسة معتمدة تقود الى مفاقمة الأوضاع. انهيار السلطة المركزية لا يحتاج الى دليل، وبروز مليشيا الحشد الشعبي وغير الشعبي يصب الزيت على نار الأزمة، والنتيجة أن المدن التي لم تفرغ بعد من سكانها الذين آثروا البقاء تحت سقوف بيوتهم، يعانون الجوع والعطش وغياب الخدمات الطبية الأولية التي تقيهم الموت نزفاً أو مرضاً. وهكذا نحن أمام نسيج اجتماعي تم تمزيقه على نحو عنيف وشرس. لا شك أن سياسات نوري المالكي والى حد ما حيدر العبادي تقود الى تأبيد هذا الحال من خلال الامتيازات الطائفية والعرقية والسياسية والطبقية من جهة، والحرمان والتهميش والإفقار من جهة ثانية. هذا ناهيك عن الفساد المستشري ونهب المال العام وتوزيعه على الأزلام والمحاسيب وانفجار التركيبة السياسية حتى بتنا أمام مشهد غرائبي لا شبيه له ولا مثيل في عالم اليوم.

النزيف العراقي قاد للعودة الى عصور ما قبل قيام الدول حيث لا سلطة، لا مؤسسات ولا مرافق أو خدمات، ولا كفاءات علمية ومهنية باقية إلا في ما ندر. وهذا كله يجعل إمكانية الوصول إلى حلول تحفظ حياة الناس مهما كان انتماؤهم تتطلب معجزات ربانية لا تأتي وسط هذه التغريبة التي لا تتوقف.

*أستاذ جامعي

المساهمون