تعميم "الإرهاب" وتعويمه
حتى تمتلك التهمة، وحتى السبة أو الشتيمة، فعاليتها وقيمتها، يجب أن تستخدم من دون إفراط، وأَن تطال فئة محددة بدقة من البشر، وحين تعمم التهمة لتلصق من دون تحديد دقيق بأيّ كان، فهذا يعني، ببساطةٍ، أنها بدأت تفقد دلالتها وفعاليتها. وها نحن اليوم نعيش عصراً جديداً تعبره تهمة "الإرهاب"، وقد يفتح هذا العصر الجديد المجال لإفراغها من مضمونها، وتخليصنا من إرث المحافظين الجدد الثقيل الذي ينزلق على ألسنة الجميع، منذ ما يزيد على عشرة أعوام.
المفردة؛ "الإرهاب"، قبل التهمة، وإِنْ تعددت استخداماتها منذ عقود خلت، إِلا أَنها اليوم هي حصيلة تقعيد وثبيت إدارة المحافظين الجدد في أميركا، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والطريف أَن تداولها في المجال الإعلامي والسياسي الدولي إنما يشي بأميركا، أو يخاطبها، أو يطلب ودّها، من باب أن مطلق التهمة على أعدائه يقول لأميركا إنهم أعداؤها أيضاً، وإنه يقف معها على ذات الخط من مواجهة هذا الشيء العام الواسع، والذي يسمّى إرهابا. ولم يعد مستغرباً، اليوم، أن من يدّعون عداءَهم لأميركا، هم أنفسهم أعداء الإرهاب اللدودون، والنظام السوري مثال ساطع على استخدام خطاب معاداة أميركا ومغازلتها في الوقت نفسه.
وفي المرحلة التي توسّع المحافظون الجدد خلالها في إطلاق التهمة، حتى كادت تشمل كل خصوم أميركا، وحتى كل من لا يشبهونها، وفي مرحلة محور الشر والخير، خاصة جورج بوش؛ تنبّهت دوائر قانونية إلى خطورة تعميم التهمة بإفراط، فظهرت لوائح الإرهاب، وظهرت تباينات أوروبية وأميركية ودولية، ونبّهت قوائم الإرهاب تلك إلى أن الاشتغال الطويل، إعلامياً وسياسياً، على تكريس المفردة والتهمة، وكل ما تحيل إليه؛ مهدد إن استمر استسهال إطلاق التهمة على أيّ كان، أي تفريغها من قيمتها القانونية، وتحويلها إلى مجرد مفردة خطابية جوفاء، تتكرر بما يشبه الإعلانات التجارية في الصحف والفضائيات.
أنقذت القوائم المضبوطة تلك المفردة والتهمة من التعويم، ووضعت محددات عديدة، لوصف جهة أو جماعة أو دولة بالإرهاب، واليوم، تدخل التهمة مرحلة أخرى، تبشّر بتعويمها وتفريغها من مضمونها؛ فبعد الانقلاب في مصر، أَراد النظام العسكري الاستثمار في "مكافحة الإرهاب"، وتسويق نفسه بهذه البطاقة الرابحة في المحافل الدولية، فبدأ باستخدام تهمة الإرهاب، ولكن التوسع في استخدامها فاق كل متوقع، فرفع إشارة رابعة بات من سمات الإرهابيين، والخروج في أي مظاهرة على صلة برفض الانقلاب فعل إرهابيّ. وفعلياً، بات ملايين من البشر إرهابيين، بعرف الانقلاب في مصر، وهنا بدأت التهمة تفقد قيمتها وفرادتها.
وجاءَت السعودية وحلفاؤها الصغار، أخيراً، لفتح مجال أوسع لإفساد التهمة وتعويمها، إلى حد جعل المتهمين بها أَعصياء على الحصر، فكيف الحال بالمساءلة والملاحقة! وهذا على الأقل إبطال للقيمة الفعلية للتهمة قانونياً، فإن كانت تمكن ملاحقة متهمين بناء على هذه التهمة، فإن ملاحقة كل المتهمين مستحيلة، بل إن فكرة الملاحقة غير واردة، ولم يبق من الأمر إلا التندّر. ومسار المجريات والأحداث يشي بأن المرحلة الحالية قد تكرّس تهمة "الإرهاب"، كمفردة إعلامية سيفسدها الاستهلاك المفرط والاستخدام المبتذل، وإفسادها لن يتصل بالحاضر والمستقبل فقط، بل سيكشف الكثير من مجريات الماضي، حين استغلت نظم مرحلة ما قبل الربيع العربي التهمة في تكريس استبدادها واستثمرت فيها، حاذيةً حذو الإدارة الأميركية، ولكن من دون دهاء وضبط، حتى وصلنا إلى مرحلة السذاجة الفاقعة، حيث كل معارض مناوئ... إرهابيّ.