تعقيب: من ينشُد عودة "خلافة عثمانية"؟

تعقيب: من ينشُد عودة "خلافة عثمانية"؟

20 يونيو 2020
+ الخط -
جاء مقال "نموذج "الخلافة العثمانية" واقعياً"، للكاتب محمد أبو رمان في "العربي الجديد" 13 يونيو/ حزيران الجاري، ليلقي الضوء على الجوانب الإيجابية في التجربة التركية في عهد حزب العدالة والتنمية، الحاكم منذ عام 2002، بما في ذلك مرحلة التحوّل إلى النظام الرئاسي قبل عامين في بلاد الأناضول، والذي ضاعف تقريبا صلاحيات رئاسة الدولة. وقد اتخذ الزميل الكاتب من الإنجازات التي حققها تحالف حكومة الوفاق الليبية، المعترف بها دوليا، مع أنقرة، باستعادة الأراضي والمناطق التي سيطر عليها الجنرال خليفة حفتر في انقلابه على الاتفاقيات الدولية المبرمة بشأن ليبيا، اتخذ منها برهانا ومصداقا إضافيا على صحة الخيارات التركية في الداخل والخارج منذ 18 عاما. ويكاد المرء لا يختلف مع ما ذهب إليه الزميل، في بعض الإنجازات، لولا محذوران أساسيان. أولهما أن سلبياتٍ وإخفاقات غير هيّنة رافقت تلك الإنجازات، وألقت عليها بظلالها. ومنها أن التحول إلى النظام الرئاسي تم على حساب صلاحيات السلطة التنفيذية (جرى إلغاء منصب رئيس الوزراء، وانتقلت صلاحيات الموقع عملياً إلى رئيس الدولة)، وعلى حساب السلطة التشريعية، ومع ما في هذا التوجه من انعكاس على السلطة القضائية. أجل تم الانتقال إلى النظام الجديد عبر استفتاء شعبي، ولكن بمعارضة سياسية وحزبية واجتماعية واسعة، بما في ذلك داخل حزب العدالة والتنمية، وقد تم هذا الانتقال بغير مسوغات دستورية. وجل ما تعمد إليه الدول الديمقراطية هو فرض حالة طوارئ مؤقتة، تنتهي بانتهاء الظروف الموجبة، والأحرى المسوِّغة. ومن المفارقة أن التحول إلى النظام الرئاسي جرى في وقتٍ كانت البلاد تشهد حالة طوارئ ناجمة عن محاولة الانقلاب في يوليو/ تموز 2016. وقد رافق هذا التحول تشدّد داخلي في حزب العدالة والتنمية، وتمحور قيادي حول الرئيس رجب طيب أردوغان الذي يقود الحزب، وسيظل يقوده ما دام رئيسا للبلاد. ما أدى إلى خروج شخصيات قيادية من الحزب، وتوجيهها نقدا علنيا لمسار الحزب، وإنشاء حزبين جديدين خرجا من رحم "العدالة والتنمية". يحدث ذلك في دول أخرى، أجل.. لكنها من تلك الدول التي تميل إلى الديمقراطية المقيّدة. وكان يمكن ببساطة ألا تصل الأمور إلى مرحلة الانشقاق، لو تم أخذ الملاحظات والاعتراضات باحترام واهتمام، والحال أنه تم التشنيع والاستهانة بهما فقط.
وإلى هذا، جرى التقليل من هيبة السلطة التشريعية، بسحب الحصانة من نوابٍ يتمتعون بعضوية 
حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي)، وتوقيفهم بدون إبداء أسباب قوية. وتواصلت حملة الاعتقالات، وخصوصا في المؤسسات الأمنية والشرطية (تضم كل موجة منها المئات، وليس الآحاد والعشرات)، ممن يُتّهموا بالانتماء إلى حركة الخدمة (فتح الله غولن).. مع الاحتفاظ بعشرات آلاف من المعتقلين الذين يُتهمون بأن لهم صلة بمحاولة الانقلاب. ولا يعقل أن تكون هذه الأعداد الغفيرة على صلة بحركة الانقلاب قبل أربعة أعوام، لأن ذلك يعني ببساطة أن سر ذلك الانقلاب الذي فشل (وحسنا طبعاً أنه فشل) كان يتفشّى بين عشرات الآلاف، وذلك مما لا يقبله عقل أو وجدان. ولا نحسب أن ذلك هو من قبيل القوة الناعمة، وحين تم، مع عيد الفطر في 24 مايو/ أيار الماضي، إصدار عفو بالمناسبة السعيدة، فقد حظي المعتقلون الجنائيون بالعفو، من دون أن يحظى به من يمكن تسميتهم معتقلين سياسيين.
ينسحب ما تقدّم على التضييق على صحافيين ومدونين واعتقال عشرات منهم، وإغلاق منابر إلكترونية بصورة مضطردة .. وهو ما كان محل انتقاداتٍ متواترة لمنظمتي العفو الدولية وهيومن رايس ووتش وغيرهما. وللأسف الشديد، صنّفت تركيا من بين الدول الأعلى عالميا في عدد المعتقلين الصحافيين، وحتى قبل عامين كان هناك 175 صحافيا معتقلا. وكما هو الحال في الدول ذات الأنظمة الشمولية، أو شبه الشمولية، وليس في دولة تفاخر بديمقراطيتها، لكنها في منحاها، أو طورها الحالي (منذ عقد مثلا)، باتت تتصرّف باعتبار أن آليات الديمقراطية وسننها ومعاييرها هي منتوج غربي أو أميركي، وأن بلاد أتاتورك تشقّ طريقها نحو ديمقراطيتها الخاصة، الأبوية شكلاً ومبنى، والسلطانية مضموناً ومعنى، وذلك ليس من قبيل القوة الناعمة، وصولاً إلى إحلال المرجعية الدينية فيصلاً في النظر إلى النزاعات الاجتماعية وحسمها، وهو ما دأب عليه الرئيس أردوغان، وجديده استعداده لتحويل متحف أيا صوفيا في إسطنبول إلى مسجد (والمتحف في الأصل كان كنيسة)، وكأن بلاد ناظم حكمت وأورهان باموق وأليف شفق ينقصها مساجد (تضم نحو 88 ألفاً و580 مسجدا).
وفي المحصلة، انحصر خطاب الحكم في تركيا، في العقد الأخير على الأقل، في الخطاب الإسلامي، مع ما لذلك من تفارق عن نصوص الدستور وروحه، ومع ضعف الجسور مع المكوّنات الاجتماعية والسياسية الأخرى، باستثناء حزب الحركة القومية الذي يغالي في قوميته ولا ينفرد بها، فحزب المعارضة الكبير (الشعب الجمهوري) ذو منزع قومي، لكنه أيضا ليبرالي وعلماني. لقد وقفت بقية الأحزاب ضد الانقلاب، وكانت تلك لحظة تاريخية لتكوين ائتلاف سياسي واسع يقود البلاد، ويحول دون الاحتقانات الاجتماعية والسياسية، غير أن الاستخلاص كان معاكسا والمآل متناقضا، إذ تم إثر ذلك تضييق دائرة التحالفات، وقصرها على تنظيم واحد.
المحذور الثاني الذي يحِفّ بمقال الزميل أبو رمان هو ما ذهب إليه واستخلصه أن تركيا أصبحت "تمثل عمليا وواقعيا الخلافة العثمانية المنشودة بصورتها الناعمة، وليس فقط العسكرية". من قال ابتداءً إن الخلافة العثمانية منشودة مع قرب العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين؟ هل قال الأتراك ذلك؟ لم يقولوا. إنهم ما زالوا متمسّكين بدستورهم العلماني الذي وضعه كمال أتاتورك 
قبل نحو قرن، وأجري عليه 17 تعديلا، بل إن حزب العدالة والتنمية ورئيسه متمسكان بهذا الدستور (بصرف النظر عما يعتمل في الصدور)، والذي أنشأ الجمهورية الجديدة على أنقاض الخلافة العثمانية. ولطالما وُصف أردوغان ورفاقه، وبالذات منهم عبدالله غل، بأنهم يمثلون نمطا جديدا من السياسيين الأتراك، ممن يعتنقون نموذج العلمانية المؤمنة التي تصالح بين الدستور والعقيدة الدينية للأتراك. وهل تتطلع الشعوب والدول التي بسطت الخلافة العثمانية نفوذها عليها إلى عودة عقارب الساعة إلى الوراء، بالاستتباع لمركز ديني وسياسي خارجي، على غرار من يحلمون ويهجسون ببسط نفوذ ولاية الفقيه الإيرانية على دول ومجتمعات عربية، عبر حزب الله في لبنان، ومليشيات إيران في العراق واليمن، وعلى حساب سيادة هذه الدول والتعدّد الثقافي والاجتماعي والقرار الوطني الحر فيها؟ ربما هناك بين سلفيين، ومن غير المسيسين، من يحلمون بتغيير الأوضاع عالياً على سافل، ومن يمنّون النفس بحلولٍ قدرية. وبالتأكيد، ليس الزميل الكاتب بين هؤلاء. ومن هنا مبعث استغراب ما ورد في مقاله.
خلاف ذلك، ينعقد الأمل بأن تتقدّم الجارة الإقليمية الكبيرة تركيا على طريق بناء نموذجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتقدّم، وتاليا إلى نموذجٍ حضاري يجمع بين احترام الهوية المجتمعية، بتموجاتها كافة، مع الآليات الديمقراطية المتطوّرة مع التنمية الصناعية والاقتصادية الشاملة (كحال اليابان مثلا)، وأن تتحوّل إلى مركز إشعاع ومصدر إلهام لنا نحن العرب ولسوانا، وكما كانت عليه قبل نحو عشرة أعوام، علما أن الحديث، ولو بالتلميح، عن خلافة عثمانية، يسبغ على النموذج التركي الحالي طابعاً ماضوياً، وارتدادا إلى الخلف، وتذكيراً بمعاناة رهيبة، ونكأً لجراح غائرة لدى الشعوب التي امتد إليها نفوذ تلك الخلافة قرونا. ونتمنى ذلك، بالمناسبة، للجارة الإقليمية الكبيرة الأخرى، إيران وشعوبها. مع الإقرار بأنه لا مقارنة أبداً بين النموذجين، التركي، على الرغم من الملاحظات عليه، وهي قابلة للإصلاح والتدارك، والإيراني الأوليغارشي الذي لا يعباً بحياة البشر، ولا يحترم جيرانه وشركاءه في العقيدة الدينية، بل يناصبهم عداء خالصا، وكما يدلّ على ذلك منهجٌ كاملٌ تسنده الوقائع، ويسعى أصحابه إلى تأبيده بأي ثمن.