تعدّدية أم استنساخ لقطب دولي واحد؟

تعدّدية أم استنساخ لقطب دولي واحد؟

07 يونيو 2014

الرئيسان الروسي والصيني معا في أكتوبر 2013 (Getty)

+ الخط -

إثر سقوط الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية في أوروبا الشرقية، ارتفعت أصوات تنعى إلى العالم اقتصاره على قطب واحد (أميركا وحلف الأطلسي)، وتشدد على أن طبيعة الاشياء ومنطق الأمور (التنافس والتدافع على المصالح والنفوذ والقيم الكونية، بين الدول والأمم) تملي أن يبرز قطب منافس للولايات المتحدة، بعد انهيار المنافس السوفياتي الذي صمد نحو أربعة عقود في حرب باردة مديدة (أساسها امتلاك السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل)، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. كانت تلك الأصوات، الصادرة أساساً من العالم الثالث، ترد على طروحات "نهاية التاريخ" و"سقوط الأيديولوجيات". وكانت الآمال تساور أصحاب هذه الأصوات بأن ينهض قطب دولي يبشّر بقيم العدالة، وينتصر للشعوب المغلوبة على أمرها، ويسندها في معارك الحرية والتحرر، مقابل عدالة السوق الإمبريالية والشركات الرأسمالية، متعددة الجنسيات، المنجذبة لمركز أميركي، والسباق على التسلح من مصادر رأسمالية الذي يستنزف ثروات الشعوب الفقيرة. هجس أصحاب هذه الأصوات بأن يتجدد النموذج السوفياتي بصورة ما، في مكان ما من العالم مع تفادي "الأخطاء التي ارتكبها".
مضى زهاء ربع قرن من عمر البشرية على صدور تلك التوقعات المتفائلة بتعددية قطبية تحقق التوازن، وتنقذ العالم من مخاطر الأحادية القطبية، وتمنح الشعوب المستضعفة أملاً بأن تجد نصيراً لها على الساحة الدولية. لكن، ما الذي حدث بالفعل؟
لقد نشأت ظاهرة تعدّد الأقطاب، بكيفية اقتصادية ومطامح قومية وتضخّم التسلح الذاتي، وبمظاهر مؤسساتية، وبحفاظ النادي الدولي النووي على قوامه الرئيسي (الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن). ولكن، من دون أن يتغيّر الكثير على مسرح السياسة الدولية، من منظور مصالح الشعوب.
كان من أولى نتائج انهيار القطب السوفياتي، والدول الدائرة في فلكه، نشوء الاتحاد الأوروبي، وفق معاهدة ماستريخت في هولندا عام 1992، والذي فتح الباب أمام دول أوروبا الشرقية للانضمام إليه، وهذا ما حدث تباعاً، لكنه لم يقدم "نفسه" قطباً على مسرح الصراع الدولي، بل تتويجاً لمسيرة طويلة، امتدت أربعين عاماً من أجل توحيد القارة التي تضم دولاً كانت في ما سبق امبرطوريات عظمى (الجرمانية، الرومانية، البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس). على العكس من ذلك، كان نشوء الاتحاد إيذاناً بانتهاء كل صراعٍ غير سلمي بين دول القارة وشعوبها. وهكذا، وسم الابتعاد عن العسكرة في مجال العلاقات مع دول العالم نشوء الاتحاد بميسمه، على الرغم من بقاء دول في أوروبا ضمن حلف الناتو، ومن التفوّق في الصناعات العسكرية لدول، مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، مع استمرار الوقوف الأوروبي إلى جانب الولايات المتحدة، وتحت مظلة الشرعية الدولية، ما يفسّر حملات ظلت تلاحق رئيس وزراء بريطانيا في أثناء الحملة على العراق، توني بلير.
وهكذا، على الرغم من أنه أضخم اتحاد على مستوى العالم، في تعداد دوله وشعوبه، إلا أنه لم يستقل عسكرياً عن الولايات المتحدة، باستثناء القيود الثقيلة التي تمنع التدخلات الأوروبية في دول العالم، وهي، في الأساس، قيود الرأي العام والبرلمانات المنتخبة. ويحدث أن يسمح الرأي العام بتدخلات محدودة ومحسوبة، كما في التدخل الفرنسي في مالي العام الماضي.
وإذ يمنح الاتحاد الأوروبي لدوله وشعوبه فرص الرخاء، مع حرية التنقّل والتملُّك والعمل ومساعدة الدول الأعضاء ضعيفة الاقتصاد، كما التدخل لإنقاذ الاقتصاد اليوناني، فإنه لا يحيي الآمال لدى بقية الشعوب في أن يشكل نصيراً لها، وفق المفهوم التدخلي الذي شهدته الحرب الباردة.


إلى جانب الاتحاد الأوروبي، تململ الاتحاد الروسي، مجدداً، كخلف للاتحاد السوفياتي. شيوعيون قدامى على شاكلة بوتين (حزب روسيا الموحدة)، باتوا يهجسون، منذ مطالع الألفية الثالثة، باستعادة مجد روسيا الذي كانت عليه في حقبة الاتحاد السوفياتي، ولكن من منظور قومي يُعظّم من شأن الأمة الروسية هذه المرة، لا من منظور عقائدي يطرح نفسه أمام شعوبه وشعوب العالم بديلاً للرأسمالية العالمية، وخياراتها السياسية الاستراتيجية. الاتحاد الروسي الذي يضم زهاء 25 جمهورية في آسيا الوسطى هو بديل للاتحاد السوفياتي السابق، بعد خروج دول أوروبا الشرقية. تتمتع هذه الجمهوريات بحكم ذاتي، كما كان الحال في السابق، ولكن، مع اختفاء الحزب الشيوعي فيها، وحلول قيادات صديقة لروسيا، وهذه القيادات (وهي في الغالب ذات انتماء شيوعي سابق) هي التي يجب أن تصل إلى الحكم في أية انتخابات.
لم تعد موسكو تصدّر أفكار لينين، بل الغاز والأسلحة لمَن يريد. وقد ابتعثت مجدداً فكرة العداء لأميركا والغرب (عودة ظاهرة التجسس المتبادل)، ولكن، من دون التصادم في الخيارات الأيديولوجية معهما، بل اقتصر التصادم على مجالات النفوذ العسكري والاستراتيجي، بما في ذلك تصدير الأسلحة والخبراء، وذلك كله بصرف النظر عن طبيعة الأنظمة التي يتم التعاون معها. وهو ما كانت تفعله الولايات المتحدة، في ذروة الحرب الباردة، بمساندة أنظمة ديكتاتورية. الديموقراطية، على الطريقة الروسية، لا تمنع من إسناد أنظمة ديكتاتورية، ويُفضَّل أن تلعن هذه الديكتاتوريات، إعلاميا، أميركا.
القطب الثالث الذي يظهر بصورة عملاق اقتصادي وعسكري هو الصين. وكحال موسكو، فإن بكين لا تصدّر أفكار ماو تسي تونغ، بل كل ما تحتاجه البشرية بما في ذلك في الدول الرأسمالية من صناعات استهلاكية في الأساس. لم تعد بكين تخاطب الشعوب، ولا حركات التحرر متى وجدت هذه، بل تخاطب وزارات التجارة والدفاع والوكلاء التجاريين، وتفتح أبوابها أمام التصنيع الرأسمالي الغربي على أراضيها، للإفادة من الخبرات الغربية، وفسح المجال للعمالة الصينية، مدفوعة بالرغبة الشديدة  في التنافس الاقتصادي والتجاري مع شعوب العالم ودوله، ومن منظور قومي  ورأسمالي، يتم التعبير عنه بـ"اقتصاد السوق الاشتراكي"، وبفتح الحزب الشيوعي باب الانضمام إليه أمام رجال الأعمال ورجال الدين (أتباع كونفوشيوس لا المسيحيين، على قلّة عدد هؤلاء، ولا المسلمين). بمعنى أن الحزب الشيوعي تحوّل إلى حزب قومي، أو إطار قومي للشعب الصيني (للدولة في واقع الأمر)، وهذا مغزى التعديلات المتلاحقة على الدستور الصيني.
غاية هذا المقال، التأشير إلى أن ثمّة تنافساً قطبياً على مستوى العالم، تمثّله كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي والصين، وهو قائم على مدّ النفوذ الاقتصادي والعسكري، وعلى أرضية واحدة، هي السعي إلى الهيمنة، مع ملامح من استبداد شرقي في النموذجين الروسي والصيني (قمع التيبت والأقلية المسلمة في الصين، وقمع الشيشان والجورجيين، وتهديد الأوكرانيين في المثال الروسي).
كنا نشكو من تغوّل النموذج الأميركي، وما زلنا كذلك، وها نحن نرفل بـ"نعيم" نشوء مزيد من "الأميركات"، كما في نموذج كل من روسيا والصين، الدولتين اللتين لا تقيمان وزناً للشعوب، بل للأنظمة والجيوش والمستوردين فحسب، أياً كانت هذه الأنظمة. بهذا، تم استنساخ النموذج الأميركي في التنافس الدولي المفتوح، حتى أنه تمت إعادة إنتاج أسوأ ما في هذا النموذج، من عسكرة ومنفعية، وتحالف مع ديكتاتوريين، والهزء الفعلي بحقوق الإنسان والشعوب.