تعثر المفاوضات الأميركية - الأفغانية.. أسبابها واحتمالات استئنافها

تعثر المفاوضات الأميركية - الأفغانية.. أسبابها واحتمالات استئنافها

17 سبتمبر 2019

من أعضاء وفد "طالبان" المفاوض في الدوحة (7/7/2019/فرانس برس)

+ الخط -
مقدمة
أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في 7 أيلول/ سبتمبر 2019، عبر سلسلة من التغريدات، إلغاء محادثات سرّية كان ينوي إجراءها مع حركة طالبان والرئيس الأفغاني أشرف غني، في منتجع كامب ديفيد الرئاسي في ولاية ميريلاند الأميركية. وكانت المحادثات تهدف إلى توقيع اتفاق رسمي بين الولايات المتحدة و"طالبان"، يمهد لنهاية الحرب المستمرة منذ 18 عامًا في أفغانستان. وعلّل ترامب قراره بهجوم شنّته الحركة قبل ذلك بيومين، في العاصمة الأفغانية، كابول، أودى بحياة 12 شخصًا، أحدهم جندي أميركي.
وقد أثار إعلان ترامب عقد لقاء مع زعماء جركة طالبان التي تصنّفها الولايات المتحدة إرهابيةً، على التراب الأميركي، وقبل أيام من الذكرى 18 لهجمات 11 سبتمبر 2001، سخطًا واسعًا في الدوائر الإعلامية والسياسية في واشنطن، زادتها حدّةً تسريباتٌ من داخل البيت الأبيض، أكدت أن إقالة ترامب مستشاره للأمن القومي، جون بولتون، في 10 أيلول/ سبتمبر 2019، كانت مرتبطةً مباشرة بمعارضة الأخير للمفاوضات مع "طالبان".
الخطوط العامة لمسودة الاتفاق
تخوض إدارة ترامب مفاوضات مع حركة طالبان منذ عام تقريبًا، في العاصمة القطرية، الدوحة، انتهت مطلع أيلول/ سبتمبر 2019 بمسوّدة اتفاق أولي بقيت سرّية، إلى درجة أنها عُرضت على الرئيس الأفغاني من دون أن يُمنح نسخة منها. مع ذلك، كشف المبعوث الأميركي إلى أفغانستان وكبير المفاوضين الأميركيين، زلماي خليل زاد، بعض خطوطها العامة. وقد اتفق الطرفان على تقليص الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان في مقابل أن تقدّم "طالبان" ضمانات بألّا توفر مأوى للقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هناك، وألّا تسمح بأي هجماتٍ تستهدف الولايات المتحدة من مناطقها. وجدير بالذكر أن "طالبان" تسيطر على نحو نصف مساحة أفغانستان اليوم.
وبحسب خليل زاد، فإنه بمجرد دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، ستبدأ الولايات المتحدة بسحب خمسة آلاف جندي خلال 135 يومًا؛ وهو ما يعني بقاء 8600 جندي يقومون بتدريب ودعم القوات الأفغانية. كما تنص مسودة الاتفاق على قبول "طالبان" بالدخول في محادثات أفغانية - أفغانية لتقرير المستقبل السياسي للبلاد. ولا تتحدّث المسودة عن وقف إطلاق نار شامل، بل عن الحد من العنف في الفترة الأولى، إلى حين تحقيق الانسحاب الكامل للقوات الأميركية، والوصول إلى صيغة سياسية شاملة لأفغانستان.
فكرة المحادثات السرّية
طرأت فكرة توقيع اتفاق سلام مع قادة "طالبان" خلال اجتماع عقده الرئيس ترامب مع كبار
مستشاريه للأمن القومي أواخر آب/ أغسطس 2019، لمناقشة مسار المفاوضات الأميركية - الأفغانية عرضها خليل زاد. وقد تمَّ خلال الاجتماع إجازة الاتفاق الأولي، على الرغم من معارضة بعض مستشاري ترامب. وعليه، تمَّ توقيع الاتفاق بالأحرف الأولى بين الولايات المتحدة و"طالبان" بعد أيام قليلة من ذلك الاجتماع. بعد إقراره، طرح ترامب فكرة التصديق على الاتفاق النهائي في واشنطن، حيث يتم استضافة وفد "طالبان" والرئيس الأفغاني في كامب ديفيد. وعلى الرغم من اعتراضات، أقرّت الفكرة، على أن يتم تنفيذها في 8 أيلول/ سبتمبر 2019. وقد تم إبلاغ الرئيس الأفغاني بالأمر، ووافق عليه تحت الضغط الأميركي، على الرغم من تحفظاته الكثيرة على المحادثات.
ويعود طرح ترامب لفكرة المحادثات السرية في كامب ديفيد إلى مجموعة أسباب أهمها:
1. الوفاء بوعد انتخابي
لم يُخفِ ترامب منذ كان مرشحًا في عام 2016 رغبته في سحب القوات الأميركية مما سمّاها "الحرب بلا نهاية" في أفغانستان. ويُعدّ التورط العسكري الأميركي في أفغانستان أطول الحروب الأميركية الخارجية على الإطلاق، إذ إنها قاربت على إتمام 18 عامًا. غير أنه مع وصول ترامب إلى الرئاسة في كانون الثاني/ يناير 2017 وجد نفسه تحت ضغوط كبيرة من وزارة الدفاع ومستشاريه للأمن القومي لإرسال مزيد من القوات إلى أفغانستان، إذا أراد الانتصار في الحرب قبل أن يفي بوعده بالانسحاب منها. ويوجد حاليًا قرابة 14 ألف جندي أميركي في أفغانستان، أي خمسة آلاف جندي أكثر مما كان عليه الحال عندما تولّى الرئاسة. وعلى الرغم من مضي ثلاث سنوات على رئاسته تقريبًا، لا زال النصر بعيدًا في أفغانستان. ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية أواخر عام 2020، يجد ترامب نفسه مضطرًا إلى أن يفي بوعده بالانسحاب.
2. البحث عن إنجاز شخصي في السياسة الخارجية
مع فقدان الرئيس ترامب القدرة على تمرير كثير من سياساته الداخلية، بعد سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب في عام 2018، انصبّ تركيزه على تحقيق إنجازات في السياسة الخارجية. والواقع أن ترامب فشل حتى الآن في تحقيق إنجاز واحد في السياسة الخارجية، يمكن أن يوظّفه لتعزيز حظوظه الانتخابية في عام 2020. بل سبّبت السنوات الثلاث الماضية تحت رئاسته اضطرابًا عالميًا وتوترًا في العلاقات بالحلفاء. وفي حين لم تفلح جهوده في التقارب مع روسيا في الحد من تحدّيها للولايات المتحدة في ساحات دولية مختلفة، فإن إعلانه حربًا تجارية على الصين لم يدفعها إلى الاستسلام أمامه، بل تضرّر الاقتصاد الأميركي نفسه من جرائها، على المدى القصير على الأقل، ولم تنجح ثلاث قمم عقدها مع رئيس كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، في إقناع بيونغ يانغ بالتخلي عن ترسانتها النووية. كما أن انسحابه من الاتفاق النووي المتعدّد الأطراف مع إيران، في عام 2018، وفرض عقوبات اقتصادية قاسية عليها، والتضييق على صادراتها النفطية، لم يدفع طهران إلى الرضوخ.
أثّرت كل هذه العوامل في الانطباع الذي يحاول ترامب أن يحيط نفسه به بوصفه "صانعَ صفقاتٍ" ذكيًا. وهو الآن يبحث بيأسٍ عن أي اتفاقٍ يُسجَّل له، ما جعل أفغانستان تبدو أنها فرصته الأفضل لتحقيق ذلك. ما يؤكد ذلك أن الوفد الأميركي ووفد "طالبان" وقّعا بالأحرف الأولى مسودةَ اتفاق "من حيث المبدأ" بينهما، إلا أن ترامب، الباحث عن الصورة والإنجاز، لتحقيق ما لم يحققه رئيس آخر، أصرّ أن يقدّم نفسه باعتباره صانع الصفقة في محادثات كامب ديفيد. وعندما عرض خليل زاد الأمر على وفد "طالبان" في الدوحة، وافق هذا الأخير، غير أنه وضع شروطًا لذلك، ما أدى الى فشل الترتيبات كلها فيما بعد.
أسباب فشل فكرة المحادثات السرية
على الرغم من تذرّع ترامب بأنه أوقف المفاوضات مع "طالبان" بمقتل جندي أميركي عشية اجتماع كامب ديفيد الذي كان مقرّرًا أن يعلن فيه التوصل إلى اتفاق سلام في أفغانستان، فإن 
كل المعطيات تفيد بأن لا علاقة لمقتل الجندي بقرار وقف المفاوضات، ففي اليوم نفسه، كان خليل زاد والجنرال أوستن ميلر، قائد القوات الأميركية في أفغانستان، في طريقهما إلى الدوحة، لوضع اللمسات الأخيرة على الملاحق الفنية للنص الرئيس للاتفاق، ولم يكن هناك أي توجّه إلى إلغاء المحادثات السرية في كامب ديفيد. كما أن الرئيس الأفغاني لم يعلن إلغاء سفره إلى واشنطن، إلا في اليوم التالي للهجوم. وتجدر الإشارة إلى أنه قُتل في أفغانستان 15 جنديًا أميركيًا في هجمات لحركة طالبان خلال عام 2019، منهم 9 منذ حزيران/ يونيو 2019 فقط، من دون أن يؤدي ذلك إلى وقف جولات التفاوض بين الطرفين. والواقع أن مجموعة أسباب أملت على الرئيس الأميركي قراره وقف التفاوض مع "طالبان" أهمها:
1. شروط طالبان
أصرّ وفد حركة طالبان على أن سفره إلى واشنطن مرهونٌ بالإعلان عن الاتفاق أولًا، وهو ما لم يرغب فيه ترامب؛ لأن ذلك يجعل دوره احتفاليًا، على عكس الصورة التي يريد أن يقدّمها عن نفسه، أي صانع الصفقات الصعبة. كما أصرّ الوفد على عدم التفاوض المباشر مع الحكومة الأفغانية، على أساس أنها دُمية أميركية لا تعترف "طالبان" بشرعيتها، ورهنت أي تفاوض معها بالاتفاق، أولًا، على كل التفاصيل مع الولايات المتحدة. كما اشترطت طالبان إطلاق سراح جميع سجنائها في السجون الأفغانية، وهو ما رهنته الحكومة الأفغانية بإعلان "طالبان" قبولها بوقف إطلاق النار، وهو أمر ترفضه الحركة التي تريد استمرار التفاوض تحت النار.
2. إصرار غني على الانتخابات الرئاسية
على الرغم من أن الولايات المتحدة متشكّكة في جدوى عقد الانتخابات الرئاسية الأفغانية في الموعد المحدد لها في 28 أيلول/ سبتمبر 2019، وتخشى أن تؤدي إلى تأجيج الخلافات بين المكونات العرقية والمذهبية المختلفة في أفغانستان، وأن يؤثر ذلك في فرص عقد اتفاق نهائي، فإن الرئيس الأفغاني، أشرف غني، يصر عليها بوصفها استحقاقًا دستوريًا. وتشير غالبية استطلاعات الرأي إلى أنه سينتصر بسهولة في تلك الانتخابات، في حال عقدها في وقتها المقرّر. في المقابل، ترفض حركة طالبان الانتخابات، وتصرّ على أنها لن تعترف بشرعيتها، بل تحذّر من أنها ستستهدف مراكز الاقتراع، في حال أُجريت الانتخابات في وقتها. ولا يُخفي الرئيس غني معارضته أي اتفاق بين "طالبان" والولايات المتحدة؛ ذلك أن حكومته تعتمد في بقائها على حماية 20 ألف جندي من قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بمن فيهم القوات الأميركية، في مواجهة "طالبان"، وفي حال انسحابهم فإن القوات الحكومية ربما لا تستطيع الصمود في وجهها.
3. الخلافات الداخلية في إدارة ترامب
على الرغم من تأييد ترامب ووزير الخارجية مايك بومبيو والمبعوث خليل زاد فكرة المحادثات السرية في كامب ديفيد، على أساس أنها ستمكّن ترامب من بدء تنفيذ وعده بانسحاب القوات
 الأميركية من أفغانستان، وتحقيق الإنجاز الذي يبحث عنه في السياسة الخارجية، فإن نائب الرئيس، مايك بينس، ومستشار الأمن القومي (المقال لاحقا) جون بولتون، عارضا ذلك. وجادل بينس وآخرون أن دعوة "طالبان" إلى واشنطن متزامنة مع ذكرى هجمات "11 سبتمبر"، تبعث رسالة خاطئة إلى القوات المسلحة الأميركية التي تقاتل الحركة منذ 18 عامًا وخسرت أكثر من 2400 جندي في أثناء ذلك. كما حذّر بولتون من أنه لا يمكن الوثوق بحركة طالبان، وأن الرئيس يمكن له أن يسحب خمسة آلاف جندي أميركي من دون اتفاق معها. وثمّة أيضًا قلق كان يساور مسؤولين آخرين من تداعيات انهيار المفاوضات تحت إشراف ترامب على سمعة مؤسسة الرئاسة، خصوصًا أن الفجوة بين وفدي "طالبان" والحكومة الأفغانية واسعة جدًا، ومن الصعب تجسيرها. بل إن مستشارين للرئيس حذّروا من أن ترامب قد يكون يرتكب الخطأ نفسه الذي ارتكبه سلفه، باراك أوباما، عندما سحب القوات الأميركية من العراق في عام 2011، ما أدى إلى صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
خاتمة
على الرغم من حديث الرئيس ترامب إن المفاوضات مع "طالبان" قد انتهت، فإن بومبيو ترك الباب مفتوحًا لاحتمال استئنافها. ويرجّح ذلك بقاء خليل زاد في منصبه، وبقاء جدول اجتماعاته مع وفد "طالبان" في الدوحة في أيلول/ سبتمبر من دون تغيير. وقد تكون إقالة بولتون عاملًا مساعدًا في استئناف المفاوضات في المستقبل أيضًا، خصوصًا أنه كان من أشد معارضيها. كما أن موقف "طالبان" الذي حثّ ترامب على العودة إلى طاولة المفاوضات قد يُغري الأخير بالتراجع، خصوصًا أنه لا يملك بدائل حقيقية من التفاوض مع الحركة في ظل إصراره على تحقيق إنجاز في السياسة الخارجية قبل الانتخابات القادمة، ولكن من دون أن يترك فراغًا أمنيًا وسياسيًا في أفغانستان، كما فعل سلفه أوباما في العراق، وهو ما يشترطه "البنتاغون" لدعم الاتفاق.
ويؤكّد صدقية ذلك أن ترامب ظلّ، على الرغم من إعلانه وقف المفاوضات مع "طالبان"، يصرّ على أن القوات الأميركية ستنسحب "في الوقت المناسب". والمعروف عن ترامب مزاجيته وتقلب مواقفه من دون مقدمات منطقية؛ ففي عام 2018 ألغى ترامب، غاضبًا، لقاء قمة بينه وبين زعيم كوريا الشمالية، كان مقرّرًا عقده في سنغافورة في أيار/ مايو 2018، لكنه عاد ليلتقي به في الشهر التالي في المكان نفسه، ويكيل له المديح!