تطبيع بسياقاتٍ ودواعٍ متباعدة

تطبيع بسياقاتٍ ودواعٍ متباعدة

05 سبتمبر 2020
+ الخط -

في محاولة تسويغ موجة التطبيع أخيرا، يذكّر كتّاب بأن مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية قد أقدمت كل منها على التطبيع مع إسرائيل وتوقيع معاهدة سلام، وإقامة أشكال من العلاقات معها، فلماذا يُحرّمون على الآخرين ما أجازه هؤلاء؟

تدلّ وقائع الماضي القريب على أنه ليست هناك وجوه شبهٍ أو مضاهاة بين موجة التطبيع هذه، القائمة على المبادرة الذاتية، وظروف التسويات بين دولة الاحتلال ودول المواجهة، فقد سعت كل من مصر والأردن إلى استعادة أراضٍ محتلة لهما، سيناء لمصر وأراض في شمال الأردن وجنوبه، وقد احتكم كل منهما إلى قرارات دولية، وبالذات إلى قرار مجلس الأمن 242، وإن حالةً من الحرب كانت قائمة بين كل منهما والدولة العبرية، وقد خاض الأردن حربي 1948 و1967 فيما خاضتهما، ثم مع سورية حرب 1973. وقد طرحت مشاريع عديدة للتسوية خلال أزيد من ربع قرن، إلى أن استقرّ قرار القيادة المصرية (أنور السادات) على الذهاب إلى خيار التسوية بصورة مباشرة واستعراضية وشديدة الفجاجة، مدركا الحجم الكبير لأرض الكنانة وشعبها ووزنها الراجح في التسويات. حدث ذلك في 1979، وهو ما أدّى إلى استعادة سيناء، ولاحقا طابا بعد مفاوضات شاقّة، ثم إلى مقاطعةٍ عربيةٍ رسمية لمصر، ونقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس عشر سنوات، قبل عودته إليها.

القطاع الأشدّ تطرّفا في المجتمع الإسرائيلي، وهو القطاع السائد، قد شعر بأن خياراته صحيحة ومثمرة، بدليل أن تطرّفه وإغلاقه الباب أمام التسويات قد أفضى إلى موجةٍ عربيةٍ من التطبيع معه.

وفي الوقائع الطريّة في الأذهان أن مفاوضات أوسلو في 1993، وبموازاة سابقة مع مؤتمر مدريد، قد أفضت إلى توقيع "إعلان المبادئ"، وهو أول اتفاق سياسي أو سلمي، فلسطيني إسرائيلي في تاريخ الصراع مع دولة الاحتلال، مع قدرٍ كبيرٍ من الاستعراضية ووعود السلام الناجز. واشتمل الاتفاق على مرحلة انتقالية تدوم خمس سنوات، وقبل انتهائها تجري بين الطرفين مفاوضات حول الحل النهائي أو الدائم. وبقية التطورات اللاحقة معروفة ومتداولة. وفي العام التالي، 1994، اتجه الأردن إلى توقيع معاهدة سلام، اتسمت ببهرجة احتفالية بدورها، وأنهت حال الحرب والمقاطعة بين الجانبين. ومغزى ذلك أن هذه التطورات وقعت في سياق الصراع ومساعي التسوية، وتعلق الحال من الجانب العربي بحقوقٍ استولت عليها إسرائيل. 

ولا يعني ما تقدّم أن هذه الاتفاقيات كانت عظيمة بذاتها، أو أنه لم يكن في الإمكان أبدع مما كان، فالقوى السياسية في مصر والأردن وفلسطين لطالما أثارت ملاحظات، بل أطروحات انتقادية على هذه الاتفاقيات. وفي حال الأردن وفلسطين، ثمّة من دعوا إلى وقف الاتفاقيات أو تجميدها. وقد ظلت الأجواء السياسية السائدة تسمح بهذا القدر أو ذاك بهذه النقاشات الحيوية. هذا فضلا عن أن مصر والأردن ميّزا منذ البداية بين التطبيع الرسمي الذي تفرضه الاتفاقيات وحق الهيئات والأجسام الاجتماعية الأهلية (إضافة إلى الأفراد) في رفض التطبيع بصورة فعلية وعلنية. وخلال نحو أربعة عقود، لم ينجح الإسرائيليون في اختراق المجتمعات العربية في مصر والأردن وفلسطين، وذلك نتيجة نظرة الناس إليهم كما هم، محتلين ومعتدين وسالبي أرض وحقوق شعب فلسطين، ولأن الحق في رفض التطبيع غير منكور على أصحابه، وهم الأكثرية الكاثرة.

لن يبدو مستغرباً تفاقم الموجة العنصرية والتوسعية الصهيونية في مرحلة قريبة

يضاف إلى ما تقدّم أن توقيع الاتفاقيات لم يمنع مصر والأردن والسلطة الفلسطينية من توجيه أشد مظاهر النقد لدولة لاحتلال، على المنابر الإقليمية والدولية، لأنها تتنصّل من موجبات السلام مع الطرف الأساس في الصراع، ولأنها ماضيةٌ في سياستها التوسعية. وقد حدث هذا ويحدث على المستويات الرسمية في الدول الثلاث. أما على المستوى الشعبي فدولة الاحتلال تتمظهر، نتيجة سياساتها، في مرتبة العدو. وهو ما أدّى إلى تعبئة الرأي العام في العالم ضد المنحى العنصري والاستئصالي للدولة العبرية التي أخذت تنسحب من هيئاتٍ دوليةٍ، مثل اليونسكو، أو تنازعها العداء، مثل المحكمة الجنائية الدولية. ولم يكن في الأمر تناقض أو تعارض بين الالتزام بالاتفاقيات واتخاذ مواقف سياسية مناوئة للدولة العبرية. إذ يتخذ الاحتلال من مشاريع السلام في المنطقة قناعا وجسرا إلى الاستيلاء على كامل أرض فلسطين. ولهذا أوقف الاحتلال العمل باتفاقياته مع الجانب الفلسطيني، المنصوص عليها في إعلان المبادئ وملحقاته. ويرفض في النتيجة سلاما شاملا يتيح التعاون والعلاقات المفتوحة وفقا لمبادرة السلام العربية للعام 2002. كما أن الجانب الفلسطيني لم يوقّع اتفاقا نهائيا، أو معاهدة سلام مع الاحتلال. وثمّة، لحسن الطالع والتدبير، من ما زال متمسّكاً بالمبادرة، وهذا طبيعي، فأصحاب المبادرة (التكتل الخليجي) هم أوْلى بالتمسّك بها والدفاع عنها ابتداء.

وفي هذه الظروف، من مصلحة دول المنطقة وشعوبها العمل على إنضاج الظروف لتسويةٍ شاملةٍ وجدّية، وليس انتظار الاحتلال إلى ما لا نهاية، كي يتلطّف بإعادة المسروقات (الأرض) التي استولى عليها، ومن ضمنها مقدّسات المسلمين والمسيحيين. إذ من شأن الضغط المشروع والحثيث على دولة الاحتلال، والمستند إلى القرارات الأممية وأحكام القانون الدولي، تهيئة المجتمع الإسرائيلي، لكي تتحوّل دولته عاديةً ذات قبول في المنطقة، وتنشط في التعاون السلمي البنّاء مع الجيران، ومع عموم دول المنطقة. لكن ما حدث، مع موجة التطبيع هذه، أن القطاع الأشدّ تطرّفا في المجتمع الإسرائيلي، وهو القطاع السائد، قد شعر بأن خياراته صحيحة ومثمرة، بدليل أن تطرّفه وإغلاقه الباب أمام التسويات قد أفضى إلى موجةٍ عربيةٍ من التطبيع معه. ولهذا لن يبدو مستغربا تفاقم الموجة العنصرية والتوسعية الصهيونية في مرحلة قريبة.