على الرغم من أن البحرين تملك تاريخاً طويلاً من العلاقات السرية مع إسرائيل، قبل الإعلان الرسمي عن اتفاق تطبيع العلاقات بين الطرفين الذي سيُوقّع اليوم الثلاثاء في البيت الأبيض، غير أن إخراج العلاقات إلى العلن، قد يؤدي إلى حرق جسور علاقات النظام البحريني مع القواعد الشعبية، المعارضة والموالية تاريخياً، فخيار التطبيع مرفوض شعبياً، وهو ما ظهر بغضب كبير في الشارع البحريني وموجة من الاحتجاجات في المدن والقرى بعد إعلان التطبيع، على الرغم من القبضة الأمنية المشددة، إضافة إلى إدانات واسعة من قبل الأحزاب المعارضة والكيانات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي.
ويعيش النظام البحريني حالة انفصال عن أغلبية شعبه من السكان الأصليين، ويفتقد أي قاعدة دعم شعبية حقيقية، ويمنع الكثير من المواطنين من العمل في أجهزة الدولة، ويسيطر على البلاد بواسطة مؤسسة أمنية غالب أفرادها من الخارج، كما أنه يحمي حدوده وسيادته عبر الوجود الأميركي في الأسطول الخامس.
وبعد إعلان البحرين قرارها التطبيع مع الاحتلال، لتصبح ثاني بلد خليجي يعلن تطبيع العلاقات بشكل كامل مع إسرائيل، بعد الإمارات، أصدرت العديد من الأحزاب والجمعيات في البلاد بيانات منددة. وقالت "جمعية الوفاق" المنحلة، التي كانت صاحبة الكتلة النيابية الأكبر عام 2011، في بيان لها، إن "النظام البحريني يمارس الترهيب والتهديد لإجبار بعض المؤسسات على تأييد اتفاقه مع الكيان الصهيوني". كما أصدرت جمعيات سياسية ومؤسسات للمجتمع المدني، منها نقابة المحامين، بياناً مشتركاً قالت فيه إن "كل ما سيترتب على التطبيع من آثار لن يحظى بأي غطاء شعبي، انسجاماً مع ما نشأت عليه أجيال من البحرينيين في التمسك بقضية فلسطين".
وعلى الرغم من الرفض الشعبي، إلا أن علاقات النظام البحريني السرية مع إسرائيل تعود لفترات بعيدة، إذ بدأت سلسلة اللقاءات السرية في منتصف تسعينيات القرن الماضي بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993. لكن مستوى العلاقات تطور مع مطلع الألفية الجديدة ومجيء الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة إلى الحكم، إذ تولى ابنه وولي عهده الشيخ سلمان زمام محادثات دبلوماسية رسمية بين البلدين خلال قمتي المنتدى الاقتصادي العالمي في عامي 2000 و2003.
التقى العاهل البحريني حمد بن عيسى آل خليفة عام 2009 برئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز في نيويورك
والتقى وزير الخارجية البحريني السابق خالد بن أحمد آل خليفة بنظيرته الإسرائيلية تسيبي ليفني عام 2007، ثم التقى العاهل البحريني حمد بن عيسى آل خليفة عام 2009 بالرئيس الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز في نيويورك على هامش فعاليات قمة الأمم المتحدة. وبحسب ما تشير وثائق "ويكليكس"، فإن العاهل البحريني أعطى أوامره لأجهزة الدولة بعدم استخدام مصطلحات مثل "العدو" أو "الكيان الصهيوني" عند وصف إسرائيل.
وفي عام 2016 نعى وزير الخارجية البحريني حينها خالد بن حمد آل خليفة، بيريز، قائلاً في حسابه على "تويتر": "ارقد بسلام أيها الرئيس شمعون بيريز". وعاد ليقول عام 2018 إن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها، قبل أن تأخذ البحرين خطوتها الكبرى نحو التطبيع عبر استضافتها مؤتمر البحرين الاقتصادي في يونيو/حزيران 2019 والذي عرف باسم "ورشة المنامة" وهدف، وفق ما هو معلن، إلى تشجيع الاستثمار في الأراضي الفلسطينية كجزء من متطلبات "صفقة القرن"، الخطة الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية.
ووصف خالد بن حمد آل خليفة، الذي استُبدل بالأمين العام لمجلس التعاون الخليجي المنتهية ولايته عبد اللطيف الزياني، إسرائيل بأنها جزء من تاريخ المنطقة، وذلك في لقاء له مع مؤسسات إعلامية إسرائيلية.
لكن اتفاق التطبيع الجديد يوصل النظام البحريني إلى حالة انسداد تاريخية ونهائية مع شعبه ومع قواعده الشعبية، خصوصاً أن هذا النظام يعيش في حالة انفصال تام عن أغلبية شعبه المعروفين باسم "البحارنة" في كافة القضايا السياسية والاجتماعية.
وبدأت الحكاية في البحرين عقب قيام قوات أسرة آل خليفة بـ"غزو البحرين" عام 1783 على يد قائدهم أحمد بن خليفة والذي يلقب في التاريخ البحريني الرسمي باسم "الفاتح" كونه فتح البحرين على يديه، بحسب وصفهم. وبدت أسرة آل خليفة، التي سيطرت على البحرين منذ ذلك التاريخ، غريبة على الأرض والسكان المحليين في الثقافة والدين والعادات، إضافة إلى آليات الحكم السياسي والتي اعتمدت على القهر، وبدأت بحملات قتل وتهجير بحق السكان المحليين، بحجة الاختلاف المذهبي والرغبة في تحصيل أكبر قدر ممكن من الأموال من القرى الزراعية والبحرية، إذ كان سكان البحرين يعيشون على الزراعة والصيد في ذلك الوقت.
وكان النصيب الأكبر من تسلط الأسرة الحاكمة في البحرين يعود إلى سكان القرى الذين أطلق عليهم في الاصطلاح الشعبي البحريني لفظة "حلايل"، أي محللي الدم والمال، والذين يمكن لأي أحد من الأسرة الحاكمة أو جنودها خطفهم وقتلهم أو سرقة أموالهم.
وتدخّل البريطانيون عام 1920 ليفرضوا على النظام الحاكم في البحرين ما اعتُبرت إصلاحات، خوفاً من حدوث انتفاضات شعبية من أغلبية السكان البحرانيين الذين كانوا يعانون من نظام السخرة، وهو الإصلاح الذي أدى إلى انقسام حاد داخل الأسرة الحاكمة البحرينية لا يزال موجوداً إلى اليوم، حينما رفض "جناح الخوالد" داخل الأسرة الحاكمة عرض البريطانيين تخفيف حصتهم من الضريبة المفروضة على السكان البحرانيين، وقاموا بمهاجمة قرى بحرانية وقتل رجالها واغتصاب نسائها وفق وثائق بريطانية رسمية.
وأرسل المعتمد السياسي البريطاني في البحرين الميجر ديلي رسالة إلى المعتمد السياسي البريطاني في بو شهر يخبره بحادثة القتل في عام 1923: "في الليلة الماضية جاء عدد من الرجال المسلحين من الرفاع حيث يعيش خالد (آل خليفة) وابنه الأكبر إبراهيم، وأحاطوا بقرية واديان، وقاموا بإطلاق الرصاص على القرية واقتحموا عدداً من الأكواخ. وقتلوا شخصين، رجلاً وامرأة، وجرحوا خمسة أشخاص آخرين من ضمنهم امرأتان بجروح خطيرة". وأضاف التقرير: "هذه الجرائم بالإضافة إلى ميل أفراد العائلة الحاكمة لظلم البحارنة فإنها تُرتكب وبلا شك بتحريض وموافقة ومشاركة الشيخ عيسى وعبدالله" (آل خليفة).
زادت هذه الأحداث من حالة عدم التوافق بين الأسرة الحاكمة والشعب البحريني، وبينما حاولت الأسر الخليجية الحاكمة، بما فيها الأسرة الحاكمة السعودية التي قامت على أساس التعاليم الوهابية المتشددة، استمالة سكانها المحليين بكافة طوائفهم ومحاولة تقديم مميزات مادية لهم لإدخالهم تحت سلطة الدولة مستغلة الطفرات النفطية والدولة الريعية التي ميزت الخليج العربي، استمرت أسرة آل خليفة التي تُقدّم نفسها كأسرة مدنية علمانية في التعامل بسياسات طبقية وطائفية مع سكان البحرين.
عام 1970 صوّت الشعب البحريني في استفتاء أجري برعاية الأمم المتحدة على استقلال البحرين وعدم تبعيتها لإيران بعد أن تعقدت المطالبات الإيرانية بالبحرين، كما ارتضى وجود أسرة آل خليفة كحاكمة للبلاد، على أمل أن يتم التوصل إلى اتفاق سياسي يؤدي إلى كتابة دستور وتأسيس نظام برلماني كما هو الحال مع الكويت آنذاك.
وتم التوافق على صياغة دستور جديد بعد استقلال البلاد عن بريطانيا عام 1971 وهو الدستور الذي عرف باسم "دستور 1973"، ولكن الأسرة الحاكمة عادت لتنقض العملية السياسية التي مكّنت البحارنة ولأول مرة من التواجد على خريطة صناعة القرار في البلاد عبر البرلمان الذي تم حله عام 1975 واستبداله بقانون الطوارئ الذي أدخل البلاد في مواجهة مفتوحة، وأفرز انقسامات طائفية وفئوية لم تنته إلا بانتهاء قانون الطوارئ عام 2002.
عاش النظام البحريني في عزلة طويلة عن الشعب بسبب قانون الطوارئ والإجراءات القمعية التي هندسها ضباط أمن بريطانيون
وعاش النظام البحريني في عزلة طويلة عن الشعب بسبب قانون الطوارئ والإجراءات القمعية التي هندسها ضباط أمن بريطانيون أشرفوا على عمليات الاعتقال والتعذيب، وهو ما أدى في نهاية الأمر إلى اشتعال ما عُرف بـ"انتفاضة التسعينيات" والتي دفعت الحاكم الجديد حمد بن عيسى آل خليفة إلى إنشاء "ميثاق العمل الوطني" والدعوة إلى التصويت عليه عام 2001، والذي أدى إلى تعديلات كبيرة على الدستور البحريني عام 2002 أعادت العمل النيابي من جديد وأنهت حالة العزلة التي كان يعيشها النظام مع شعبه.
لكن التسوية الدستورية والسياسية الجديدة بين النظام البحريني ومعارضيه لم تكتمل بسبب قيام الجناح المتطرف داخل الأسرة الحاكمة بمحاولة التلاعب بالعملية الانتخابية واتّباع سياسة التمييز في الوظائف العامة والتي كشف عنها "تقرير البندر" الذي نشر عام 2006 بناء على شهادة قدّمها صلاح البندر، وهو مستشار بريطاني من أصل سوداني كان يعمل مستشاراً في الديوان الملكي البحريني.
وأعادت حركة الاحتجاجات التي اندلعت في فبراير/شباط 2011 الآلة القمعية للنظام البحريني، والتي أدت إلى الاستعانة بقوات "درع الجزيرة" في مارس/آذار من العام نفسه وقوامها جنود سعوديون وإماراتيون قاموا بفض اعتصام دوار اللؤلؤة في وسط العاصمة المنامة وشاركوا في الحكم العسكري للبلاد.
وأدت ردة الفعل العنيفة التي قامت بها السلطات البحرينية تجاه الاحتجاجات إلى دخول البلاد في نفق مظلم ووصولها إلى مرحلة جديدة من الانسداد في الأفق السياسي وعزل الأغلبية الساحقة من الشعب البحريني عن العمل السياسي بعد حل "جمعية الوفاق"، والتي كانت تمثل الكتلة الأكبر في البرلمان عام 2011، وإغلاق عدد من الصحف المعارضة واعتقال المئات من الناشطين الشباب وسحب جنسيات عائلات كاملة، من بينهم الزعيم الديني عيسى قاسم، والذي كان أحد أعضاء المجلس التأسيسي الذي كتب الدستور البحريني الأول عام 1973.
وزادت مغادرة قاسم قريته التاريخية الدراز ليعيش خارج البحرين، بعد أن حاصرتها القوات الأمنية، قبل أن تقتحمها وتعتقل العشرات من أنصار القائد الديني الذي يمثل "التدين الشعبي" داخل البحرين، زادت من مشهد انفصام النظام البحريني عن شعبه، وأدى إلى قناعة داخل الشعب بأن النظام الحاكم يعيد إنتاج نفسه تاريخياً كنظام مفارق لشعبه ومختلف عنه.
فقد النظام البحريني المزيد من الشعبية داخل البحرين حتى بين أنصاره، مع الأوضاع الاقتصادية السيئة وصراعات الأسرة الحاكمة
وفقد النظام البحريني المزيد من الشعبية داخل البحرين حتى بين أنصاره، مع الأوضاع الاقتصادية السيئة وصراعات الأسرة الحاكمة فيما بينها، وانشغال أبناء الملك في مسابقات الرماية والجري والخيول، ليزداد الحنق الشعبي حتى بين الطبقات الوسطى التي لم تُمنع من ممارسة الوظائف العامة، والتي صوّر النظام نفسه كحامٍ لها.
لكن خيار النظام البحريني التطبيع مع إسرائيل وإعلان العلاقات الرسمية أدى إلى حرق جسور العلاقات مع كافة القواعد الشعبية. وبعدما اختار هذا النظام الاعتماد على الدعم الإقليمي في مواجهة شعبه عام 2011 وزيادة الوجود الأجنبي على أراضيه وإمكانية استخدام تقنيات الأمن الإسرائيلي في التعامل مع المحتجين، بات اليوم مجرد نظام أمني يحكم البلاد، غريباً عن السكان، معادياً لهم في القضايا الداخلية والخارجية، مدعوماً من قوة أمنية أجنبية تثبّت حكمه الداخلي، ومتعاملاً مع دولة تعد العدو الأول للشعوب في المنطقة وهي إسرائيل.