بخطوات أسرع مما كان متوقعاً، قفزت تصريحات المتحدث الرسمي باسم الخارجية السودانية حيدر بدوي إلى صدارة الاهتمام الإعلامي والشعبي العربي مساء الثلاثاء، بعد إعلانه تأييد حكومة بلاده التطبيع مع دولة الاحتلال، الأمر الذي تلقفه مباشرة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالترحيب، قبل أن تعود الخارجية السودانية عبر وزيرها عمر قمر الدين لنفي التصريحات السابقة ثم تعلن إقالة المتحدث الرسمي، الذي يبدو أنه تحدث بما ليس مصرحاً بنشره، لا سيما ما أشار إليه من وجود اتصالات بالفعل بين الجانبين.
جاءت هذه المستجدات بعد يومين من نشر "العربي الجديد" تقريراً الأحد الماضي عن جهود تبذلها القيادة المصرية للإسراع بإدخال السودان دائرة الدول العربية المطبّعة مع الاحتلال الإسرائيلي، كجزء من التخطيط الأميركي الجديد للمنطقة، مغرية الخرطوم بانهمار المساعدات المالية واللوجستية عليها من الولايات المتحدة وأوروبا ودول خليجية بارزة، منها الإمارات والسعودية، الأمر الذي ما زال قيد الدراسة والنقاشات والخلافات داخل مجلس السيادة السوداني.
وفي معلومات جديدة عن الخطوات التنفيذية المتوقعة للتقارب السوداني الإسرائيلي، قالت مصادر مصرية مطلعة لـ"العربي الجديد" إن إقامة علاقات، لا سيما على الصعيد الاقتصادي بين السودان والاحتلال الإسرائيلي، ستكون حجر زاوية لتأسيس سوق كبيرة للطاقة في منطقة البحر الأحمر، بشراكة مع مصر والسعودية، وذلك من خلال الاستفادة من خبرات الشركات القريبة من الدولة العبرية ورغبتها في دخول المنطقة والاستثمار في التنقيب عن النفط والغاز في المنطقة، وتكامل الجهود السودانية مع المشاريع المقترحة بين مصر والسعودية والحكومة الإسرائيلية في مجال إنتاج وإسالة الغاز الطبيعي.
وأضافت المصادر أن الدخول في شراكة مربحة للدول الأربع في هذا المجال هو البديل الوحيد لاندلاع مشاكل بينها على الثروات المتوقع اكتشافها في مناطق البحر الأحمر ومسارات تصدير الإنتاج، خصوصاً بعدما بدأت السعودية التنقيب بنشاط عن الغاز في مياهها الإقليمية بعد ترسيم الحدود البحرية مع مصر واستحواذها على جزيرتي تيران وصنافير، وتحديداً في الربع الأول من عام 2019 عندما حدث مستجدان أساسيان؛ الأول هو بدء تنقيب السعودية بواسطة شركة أرامكو عن الغاز في مناطقها البحرية القريبة من الساحل الغربي، وإعلان وزير الطاقة خالد الفالح اكتشاف "كميات ضخمة" من الغاز الطبيعي ببعض الحقول.
أما المستجد الثاني فكان تقديم السعودية مشروع مذكرة تفاهم مع السودان للتنقيب عن النفط والغاز في البحر الأحمر، وهي خطوة تصفها المصادر بأنها كانت تهدف لطمأنة الخرطوم بعدم الجور على حقوقها الاقتصادية في ظل ضعف إمكانياتها ومحدودية المناقصات التي طرحها نظام عمر البشير في سوق الطاقة العالمية، وفشله في جذب الاستثمارات، وعدم تطوير الاتفاقات التي وقّعت مع روسيا وماليزيا ودول أخرى في هذا السياق خلال السنوات الخمس الأخيرة.
إقامة علاقات بين السودان والاحتلال، ستكون حجر زاوية لتأسيس سوق كبيرة للطاقة في منطقة البحر الأحمر، بشراكة مع مصر والسعودية
فالسودان كان المعارض الوحيد لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية بسبب مثلث حلايب وشلاتين المتنازع عليه، والذي بدأت مصر بالفعل طرح بعض المناقصات للتنقيب عن الغاز قبالته منذ عامين، وأثار هذا غضباً سودانياً بلغ حد استدعاء السفير المصري للاحتجاج، وهناك اعتقاد سوداني بأن السعودية تسهم في إعطاء غطاء شرعي لاستحواذ مصر على المثلث من خلال إيداع اتفاقية الترسيم لدى الأمم المتحدة. وإزاء تلك الحساسيات اختارت الرياض أن تُقدم على خطوة مذكرة التفاهم لتأمين مصالحها وتهدئة مخاوف الخرطوم، لكن مشروع المذكرة لم يتطور حتى الآن إلى اتفاقية إطارية كما كان مخططاً منذ عام ونصف.
وأوضحت المصادر أن الحكومة الإسرائيلية، والإدارة الأميركية والشركات المقربة منهما مثل "ديليك" و"نوبل"، تروّج خلال المحادثات الممتدة مع المسؤولين المصريين في جهاز المخابرات العامة، والمسؤولين حالياً عن ملف الطاقة، لفكرة أن دخول السودان في علاقات طبيعية مع الإسرائيليين سيمهّد الطريق ليس فقط لتعظيم الاستفادة من الحقول المختلفة التي ستكتشف في المياه المصرية والسعودية والسودانية على حد سواء، بل إن ذلك سيساهم أيضاً في تجميد الصراع على مثلث حلايب وشلاتين أو الحد من آثاره السلبية على المدى القريب.
وذكرت المصادر أن الاتصالات بين مصر والإسرائيليين في هذا الصدد لا تقتصر على طرح أفكار محدودة أو مشاريع مؤقتة تتضمّن بعض الحقول، ولكنها تتفق على ضرورة تحويل حوض البحر الأحمر إلى مصدر للطاقة وليس فقط معبراً مهماً لها، عن طريق قناة السويس ومضيق باب المندب، وأن تتكامل هذه الرؤية بشكل أساسي مع أنشطة منتدى شرق البحر المتوسط للغاز، الذي تنخرط فيه الدولتان مع قبرص واليونان بمشاركة إيطالية فرنسية أميركية.
ولا تقتصر الطموحات الإسرائيلية على التنقيب عن الغاز وإسالته وتصديره، بل تمتد إلى مشاريع لتوليد الكهرباء من مياه النيل، استفادة من المشروع الإثيوبي السوداني المشترك القائم على إنجاز سد النهضة، ونقلها إلى إسرائيل والسعودية ودول الخليج، عن طريق خطوط جديدة سيتم مدها لنقل الكهرباء في حوض البحر الأحمر، بحسب المصادر المصرية ذاتها، التي كشفت أن القاهرة أبدت تحفظها على تلك الخطة والمشاركة فيها، إلا بعد التوصل إلى اتفاق ملزم يمنع تضررها من سد النهضة نهائياً، ويضمن مرجعية يمكن اللجوء لها عند الاختلاف.
لكن وعلى الرغم من خلو المعلومات الواردة من المصادر المصرية من ذكر لدور إسرائيلي فعال في مفاوضات سد النهضة، إلا أن مجرد طرح هذه الأفكار إسرائيلياً دليل على طموحاتها في استغلال الموقف للخروج بثمار حقيقية من الوضعية الجديدة التي ستشمل تصفية القضية الفلسطينية، وتطبيع دول عربية جديدة معها، ووقوع الأمن المائي المصري تحت رحمة إثيوبيا.
لا تقتصر الطموحات الإسرائيلية على التنقيب عن الغاز وإسالته وتصديره، بل تمتد إلى مشاريع لتوليد الكهرباء من مياه النيل
وسبق لـ"العربي الجديد" أن كشف أن مشاريع تطوير البنية التحتية لدول الشرق الأوسط لتداول الغاز الطبيعي وإسالته هي مدخل أساسي للمضي قدماً في مشاريع التسوية بين الأنظمة العربية وإسرائيل، وتصفية القضية الفلسطينية، فالسعودية التي بحثت بالفعل شراء الغاز الطبيعي الذي يسيطر عليه الاحتلال الإسرائيلي، قريبة من الإسهام في تصورات لتدشين مشاريع مشتركة بين دول المنطقة في ساحة البحر الأحمر برعاية أميركية.
ومن ضمن الأوراق التي تطرحها مصر أن تشارك السعودية في مشروع مستقبلي يجرى الاتفاق على تفاصيله مع إسرائيل لإقامة وحدة أو اثنتين لإسالة الغاز الطبيعي الإسرائيلي والمصري في البحر الأحمر، بهدف تصديره إلى الخليج ودول آسيا، لمزاحمة أكبر الدول المصدّرة للغاز إلى الدول الصناعية الكبرى في جنوب آسيا والمعروفة بأنها من الأكثر استهلاكاً للطاقة في العالم مثل الصين واليابان.
والأفكار المصرية الإسرائيلية، التي نوقشت بالفعل في اجتماعات منتدى شرق البحر المتوسط للغاز، مدعومة من بعض الشركات الناشطة في هذا المجال بالبلدين، في ضوء التعاون المتقدّم بين شركات "نوبل إينرجي" الأميركية، و"ديليك" الإسرائيلية، و"غاز الشرق" المصرية المملوكة حالياً للدولة ممثلة في جهاز المخابرات العامة وهيئة البترول (تختلف عن شركة غاز شرق البحر المتوسط محل الصفقة ومالكة شبكة الأنابيب بين البلدين) وكذلك "دولفينوس" المملوكة لمستثمرين مصريين.
من جهتها، ستستفيد السعودية نظرياً من المشاركة في هكذا مشروع، فهي في حاجة إلى الغاز الذي يسيطر عليه الاحتلال الإسرائيلي، وهو في حاجة إلى وحدة لإسالة الغاز لضمان تحقيق قدر أكبر من الأرباح عند التصدير. أما مصر فقد أبدت للجانب الإسرائيلي استعدادها لإقامة وحدة الإسالة في منطقة صناعية جديدة على شاطئ البحر الأحمر كجزء من مساعي نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لجذب الاستثمارات الأجنبية لمنطقة الصحراء الشرقية وجنوب السويس وتوفير المزيد من فرص العمل المؤقتة والدائمة، كما حدث لدى إنشاء وحدتي الإسالة اللتين تتميز مصر بهما في هذه المنطقة، على شاطئ البحر المتوسط، في إدكو ودمياط.
وسبق أن قال مصدر مصري العام الماضي لـ"العربي الجديد" إنه في حال الاتفاق على تطوير مشروع كبير للطاقة في منطقة البحر الأحمر فسوف يتحتم على السعودية تمويل الجزء الأكبر منه، مقابل الحصول على حصتها من الغاز المسال بصفة دائمة والتشارك مع مصر والحكومة الإسرائيلية في أرباح التصدير على المدى الطويل.