تركيا "العربية" مجدداً .. أين الخطأ؟

19 ابريل 2014

أردوغان .. نبرة حادة بشأن إزاحة مرسي (أرشيفية)

+ الخط -
لا يأتي المرء جديداً، في التأشير إلى أن جاذبية النموذج التركي خفتت لدى الديمقراطيين العرب، منذ زهاء سنة على الأقل، مع اندلاع احتجاجات ميدان تقسيم في اسطنبول، ولم يغيّر فوز حزب العدالة والتنمية مجدداً في الانتخابات المحلية التركية، كثيراً، في صورة هذا النموذج الذي لحقه بعض البهوت. فالانتخابات، على أهميتها وحدة قياس لمدى القبول والشعبية، ليست المعيار الوحيد لنجاعة نموذجٍ (حزبي) ديمقراطي. ثمة معايير أخرى، تتعلق بمدى احترام التعددية في المجتمع، ومدى الاستعداد للائتلاف مع الآخرين. معايير تتصل بالنظرة إلى المعارضين، كمنافسين انتخابياً وحزبياً، ولكن كشركاء في الدولة والوطن، من الواجب التواصل معهم، والحرص على ضمّهم إلى الحكومة، والعمل على استشارتهم لدى بروز أزمات كبيرة.  علاوة على معايير بديهيةٍ، تتصل بالنظرة إلى مفرداتٍ ديمقراطيةٍ أخرى تتعدّى الانتخابات: النظرة إلى الصحافة والتعبير الحر الفردي والجماعي، الموقف من القضاء كركن ركين لسيادة القانون، احترام المعايير الدولية (العامة) للديمقراطية، حتى مع بعض الاختلاف معها. وفي ذلك، لم يحقق حزب العدالة نجاحاً، هو ورئيسه رجب طيب أردوغان.
بعيداً عن الشأن الداخلي التركي، وبالالتفات مُجدداً إلى مواقف أردوغان وحزبه من التطورات العربية، وبما يستكمل مقالاً سابقاً للكاتب في "العربي الجديد" عنوانه (تركيا "العربية" والإسلام السياسي)، فإن نظرة تركيا إلى الربيع العربي مرّت بمرحلتين فارقتين. الأولى اتسمت بتأييد موجة الاحتجاجات، كتعبير ديمقراطي سلمي ضد الفساد والاستبداد. واكتسب أردوغان في هذه المرحلة سمة زعيمٍ سياسيٍّ في دولة جارة كبيرة، وبملامح ونبرةٍ تكادان تكونان عربيتين، وامتدت من خريف العام 2010 إلى ربيع العام 2012. وتستحق تسميتها بأنها مرحلة ذهبية كان فيها أردوغان يخاطب بنجاح مختلف الشرائح والحساسيات العربية، تحت عنوان ضمني هو: الحق في التغيير.

المرحلة الثانية تلت ذلك، وما زالت ممتدة، واتسمت ببروز قدرٍ كبير من التماهي بين أردوغان وحزبه وبين الإسلام السياسي العربي، الممثل خصوصاً بجماعة الإخوان المسلمين. وتبدّى ذلك في الموقف من التطورات المصرية، وبدرجة أقل إزاء التطورات في تونس. فقد أيد أردوغان انتخاب محمد مرسي تأييداً حاراً، ونسج علاقات وثيقة مع نظامه، وله ملء الحق في ذلك إزاء رئيس منتخب. ثم اتخذ موقفاً مناوئاً لإزاحة مرسي، وله كل الحق في ذلك، ولكن، اتسمت طريقة تعبيره عن ذلك بإزالة الحدود بين ما هو شأن مصري وشأن تركي! بين جماعة الإخوان المصرية ونظامها وحزب العدالة والتنمية التركي. وكان يسعه اتخاذ موقفٍ يعكس قناعته، لكن بقدر أكبر من الرصانة، وبما يتعدّى مجرد احترام اللياقات الدبلوماسية بين الدول. وتبدّت مكامن الخطأ في:
ــ التقليل، إلى حد بعيدٍ، من أهمية الاحتجاجات الشعبية الواسعة ضد حكم مرسي. وذلك وفق منظورٍ، يتم اعتماده في تركيا حالياً، مفاده أن الحكم المنتخب ينبغي أَن يُترك يحكم، وأن محاسبته تتم في البرلمان فقط، لا في الشارع، مع استهانةٍ بواقع أَن من منحوا التفويض من حقهم التعبير عن مواقفهم، من دون انتظار انتخاباتٍ لاحقة. والاحتجاجات عندما يتسع نطاقها تعكس أزمة سياسية، تجعل التفويض للنواب، وحتى للرئيس المنتخب غير كافٍ بحد ذاته، بل يصبح هذا التفويض محل نظر، لذلك، تلجأ الدول الديمقراطية إلى انتخاباتٍ مبكرة لدى نشوب أزمة سياسية شديدة.
ــ بدا أردوغان، في موقفه من التطورات المصرية، وكأنما يجمع بين نظرته إلى النظام السياسي القائم (الذي كان قائما، نظام مرسي) ونظرته إلى الدولة المصرية. الحدّة المفرطة التي تم التعبير بها إزاء التطورات أَفضت إلى ما يشبه قطيعةً بين أنقرة والقاهرة. والقطيعة بين الدول، بين دولتين مثلاً، لا تقع إلا إذا تهددت المصالح المباشرة لدولة ما من دولةٍ أخرى. ولم يكن هناك تهديد مصري ضد المصالح التركية. وكانت الحاجة، وما زالت قائمة، إلى الحرص على الحد الأدنى من العلاقات، وعلى الوفاء بمنطق استمرار العلاقات بين الدولتين، بصرف النظر عن التطورات الداخلية في البلدين، وإن كانت وتيرة هذه العلاقات عُرضةً للارتفاع والانخفاض، حسب عوامل شتى. ونموذج تجميد العلاقات الذي تأخذ به منظمات إقليمية (الاتحاد الإفريقي خصوصاً) لدى حدوث تطوراتٍ مقلقة، كتعليق الدستور في دولة ما، كما في حالة مصر، لا ينسحب بالضرورة على الدول الأعضاء في الاتحاد القاري، ولا يلزم هذه الدول.
ــ الأمر الآخر المثير للاهتمام، بل المثير صراحةً للقلق، أن حزب العدالة والتنمية التركي بدا وكأنه يتخذ من جماعة الإخوان المسلمين نموذجاً له، ويتصرّف وكأن الجماعة تنظيم شقيق ورديف له. وذلك يخالف صورةً تكوّنت في الأذهان العربية عن الحزب، والذي كان يُنظر إليه باعتباره نموذجاً متقدماً في المنطقة، ليس للإسلام السياسي تحديداً، بل لحزبٍ ديمقراطيٍّ ذي مرجعية إسلامية، لا مشكلة لديه في التواصل مع العالم والعصر، ويتطلع للالتحاق بالاتحاد الأوروبي والاندماج فيه، واحترام معاييره للمواطنة وحقوق الأقليات والنساء، وحقوق الرأي والتعبير والمعتقد.
وكان أردوغان قد قدّم نفسه، في وقت مبكر، على أنه وحزبه يعتنقان ما أسماها "العلمانية المؤمنة"، في معرض إبداء احترامه دستور بلاده. وكان الظن والأمل أن يجذب "العدالة والتنمية" التركي جماعات الإسلام السياسي العربي (السنية والشيعية على حد سواء) نحو قدرٍ من العصرنة والتصالح مع العصر، فإذا بأردوغان ينجذب، هو وحزبه، إلى جماعة الإخوان المسلمين، والتي لم يسبق أن قدمت أية مراجعة لمفاهيمها، منذ نشأتها، بشأن الدولة وحقوق المواطنة (باستثناء جماعة الإخوان السورية قبل عامين). وفي ذلك باعثٌ على الخيبة.
تحول أردوغان، بعد أن أصبح مولعاً بالحديث عن المؤامرة الخارجية والمندسين ورهاب الإعلام، إلى زعيم شعبوي، لدى شريحة كبيرة من أبناء شعبه، وفارق صورته قائداً سياسياً ديمقراطياً عصرياً، واتخذ موقفاً أيديولوجياً، لا سياسياً، من تطوراتٍ عربيةٍ. ولهذا، بهتت، للأسف، صورته لدى أنصار الديمقراطية والتغيير العرب، باستثناء مجموعات إسلامية.

 
محمود الريماوي
محمود الريماوي
قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.