ترشيحات الرئاسة الجزائرية.. الجد والعبث

ترشيحات الرئاسة الجزائرية.. الجد والعبث

04 فبراير 2019
+ الخط -
سحب أكثر من 172 مواطنا جزائريا أوراق ترشحهم لانتخابات رئاسة الجمهورية المقررة في 18 إبريل/ نيسان المقبل. الأمر عادي جدا، فالدستور يضمن لكل جزائري يبلغ 40 عاما، ويتمتع بالأهلية القانونية الترشح لهذه المهمة. تهافتت معظم الأحزاب الجزائرية على ترشيح قادتها للانتخابات، ولم يقاطعها إلا قليل منها، في مقدمتها جبهة القوى الاشتراكية وجبهة العدالة والتنمية.
في الجزائر 64 حزبا، وهذا أمر ما زال يطرح الأسئلة نفسها التي طُرحت في بداية تجربة التعددية عام 1989. كانت الجزائر تخرج للتو من تجربةٍ طويلةٍ مع الحزب الواحد (جبهة التحرير الوطني، منذ الاستقلال عام 1962). سمح دستور 1989 بإنشاء الأحزاب، فخرجت إلى الوجود يومها أحزابٌ جديدة كثيرة وُلدت من رحم العتمة والممارسة الخفية للسياسة، كالإسلاميين والشيوعيين. كما تبارى الناس يومها، كل على هواه، في إنشاء أحزاب فاق عددها ستين حزبا، وصار العدد حينئذ محل تندر ومقارنة، ولم يبرح محله الذي راوحه سنين طويلة، وإنْ تعدلت القائمة ارتفاعا أو هبوطا بموت أحزاب، وحظر أخرى، وإنشاء أحزاب جديدة ولدت إما من انشطار أحزاب سابقة، اخترقتها السلطة، وأوعزت لبعض منتسبيها بالانشقاق عن مؤسسيها، رغبة ورهبة. أو أحزاب ولدت من رحم السلطة نفسها مثل التجمع الوطني الديموقراطي، في 1997 فجأة.

قد يُفهم تهافت الناس على إنشاء أحزاب جديدة في بداية التعددية، ومبرّر ذلك حداثة التجربة، وبحث العامة عن موطئ قدم سياسي، لكن بقاء الأمر على حاله ثلاثين سنة يشي بانتهاء اللعبة السياسية إلى حالةٍ من الفراغ، تعمّدت السلطة وجوده بلجوئها إلى تدجين العمل السياسي، وتحويل الأحزاب إلى أجهزةٍ تابعة، أو مجرّد ديكور، أو إلى تحريك لعبة التعويم التي أدّت إلى حالةٍ من فقدان الثقة في أهل السياسة، وعزوف غالبية المجتمع عن مزاولة العمل السياسي، وفقدان الانتخابات معناه الحقيقي، فأعداد الإقبال عليها أصبحت تتدنّى من استحقاق انتخابي إلى آخر، حتى لم تعد نسب المشاركة، تتجاوز 35% كما أعلن عنه رسميا، إذا صدق جدلا أن هذا الرقم صحيح.
تعيش الجزائر حالةً متفرّدة من العمل السياسي، فالعدد الكبير من الأحزاب المعتمدة لا يعني بالضرورة وجود عمل سياسي وحزبي حقيقيين، ذلك أن المشهد برمته تسيطر عليه أحزاب الموالاة، ومن سار في دربها من المنشقّين من أحزاب إسلامية أو يسارية منتفعة، لتفقد بعد ذلك المعارضة معناها الحقيقي، مع غلق الفضاءات الإعلامية أمام المعارضين، وغلق الساحات العمومية أمام أي متظاهرٍ أو معارض.
في هذا المشهد السوريالي، اعتقد بعض البسطاء أن في وسعهم هم أيضا ولوج لعبة السياسة من خلال ترشيح أنفسهم لمنصب رئاسة الجمهورية، ليصنعوا بذلك لوحة أكثر تعقيدا. لا يمكن نظريا الحجر عن أي جزائري أو جزائرية الترشح، ولكن ما بثته القنوات التلفزيونية من مقابلات مع بعض هؤلاء أظهرت أن الوضع يستدعي وقفة تأمل، حيث اختلط الحابل بالنابل، فمن هؤلاء من هو أقرب إلى فاقد العقل حقيقةً لا مجازا، حيث ظهرت على أكثر من 15 شخصا ممن سحبوا استمارات الترشح من وزارة الداخلية، علامات البله والخبل، فمنهم من يتحدّث عن مظاهرات تجوب شوارع واشنطن لمساندة ترشحه، ومنهم من يريد هزم أميركا بطائراتٍ من طين، ومنهم من يريد تزويج كل العزاب، وتشغيل كل العاطلين، ومنهم من يرى نفسه "سوبرمان". وأمثلة ذلك كثيرة مبثوثة على مواقع التلفزيونات الجزائرية. ومنهم الأمّي الذي لا يعرف القراءة والكتابة، ومنهم العسكري الذي خلع بزّته للتو، يريد تكرار واحدٍ من مشاهد حكم العسكر بطريقته الخاصة.
ليس في الأمر تسليةً من أي نوع كان، فحال الجزائر لا يسمح بذلك ألبتة، ولكن وجود مثل هذه النماذج يؤدي إلى بعض الاستنتاجات، لعل أولها رغبة السلطة في إبراز هؤلاء الأشخاص إعلاميا على الأقل، إمعانا منها في تأكيد أن مرشّحها المفترض للرئاسيات هو الأصلح والأفضل دائما، ولا بديل عنه. الأمر الثاني أن هؤلاء الأشخاص فقدوا الأمل تماما في السلطة الحالية، 
ودفعتهم حال البلاد المزرية، "مع توفر نياتهم الصادقة"، إلى الاعتقاد أنهم ربما يُشكلون طوق نجاة لبلادٍ يغرق أبناؤها كل يوم في أمواج البحر المتوسط، هربا من الفاقة والعوز والتيه السياسي. ثالث الأمور أن بروز هؤلاء في المشهد الإعلامي السابق للانتخابات يشي بإفلاس الأحزاب السياسية، وفقدانها بوصلتها تجاه المواطنين، فلم تعد برامجها مقنعة، ولا أشخاصها ذوي نفع، بعد أن تحوّلت هذه الأحزاب إلى مجرد فرق صغيرة في جوقة كبيرة، تعزف على نغمةٍ واحدة، في مواعيد انتخابية معد لها سلفا، لا تكاد تنتهي حتى يتفرّق جمعها في انتظار إيعازٍ آخر من السلطة، بعزف نغمة الاستمرارية في موعد لاحق.
لا ترى الأحزاب القليلة المقاطعة للانتخابات جدوى من إجرائها، حيث ترى أنّ ظروف الشفافية الانتخابية غير متوفرة، ناهيك عن المخاوف من ارتفاع نسبة العزوف عن التصويت، كما في الاستحقاقات الانتخابية في السنوات الأخيرة. وتضع هذه الأحزاب الاستحقاق الرئاسي ضمن سياق استمرارية النظام الحاكم، بسبب المضي في ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة. وفي قول رئيس المجلس الشعبي الوطني (البرلمان) الجزائري، معاذ بوشارب، إن هيئة تسيير الحزب الحاكم (جبهة التحرير) قررت تأجيل عقد المؤتمر الاستثنائي إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، حتى يكون الحزب صفا واحد وراء مرشحه في هذا الاستحقاق الرئاسي، والذي سيكون الرئيس الحالي، عبد العزيز بوتفليقة، الذي لم يسمع له صوت منذ 2012.
خليل بن الدين
خليل بن الدين
إعلامي جزائري، من مواليد 1962، عمل في الصحافة المكتوبة، وفي التلفزيون الجزائري، وأستاذا مشاركا في قسم الإعلام جامعة وهران، وعمل في تلفزيون دبي كبير مراسلين ومشرف نشرات، ويعمل حالياً في قناة الجزيرة.