في أقوى مؤشر إلى إمكانية التدخل العسكري الروسي المباشر في بيلاروسيا، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه شكّل "قوة احتياط" استجابة لطلب الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، مستدركاً أنهما اتفقا على عدم استخدام هذه القوة إلا في حال اقتضت الضرورة، و"تجاوز العناصر المتطرفة الحدود" وبدء أعمال شغب وتخريب في المؤسسات العامة. وشدّد على أن التدخل سيكون بمقتضى الاتفاقات الثنائية والدولية بين موسكو ومينسك. وعلى الرغم من تواصل التظاهرات واتساع رقعة الإضرابات العمالية ضد حكم لوكاشينكو منذ 9 أغسطس/آب الحالي، بعد إعلان فوزه بالانتخابات الرئاسية بأكثر من 80 في المائة من أصوات الناخبين، مقابل اتهامات المعارضة بتزوير النتائج، قال بوتين في مقاطع من حوار مع قناة "روسيا 1" يوم الخميس الماضي، إن "الوضع العام (في بيلاروسيا) يتجه نحو الاستقرار الآن. وآمل بأن تُحلّ جميع المشاكل، وهي موجودة بالطبع، في إطار الدستور والقانون وبالوسائل السلمية". ولفت الرئيس الروسي إلى أن بلاده لا يمكن ألا تكون معنية بما يجري في بيلاروسيا، مضيفاً أن سلوكها يتسم بـ"ضبط نفس وحيادية أكبر" مما تظهره بلدان أخرى كثيرة، ومنها الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وخلص إلى أن "هناك أطرافاً خارجية تحاول التأثير في أحداث بيلاروسيا من أجل مصالح سياسية معينة".
فقدان بيلاروسيا يضعف صلة روسيا بجيب كاليننغراد
مع العلم أن بوتين كان أول زعيم عالمي، ضمن قلائل، ممن أرسلوا برقيات تهنئة بفوز لوكاشينكو، ما يكشف أن السيناريو الأفضل في للكرملين يكمن في بقاء الأمور على حالها في الجارة ذات العلاقات الأوثق مع روسيا، وتربطهما اتفاقات لتأسيس دولة موحدة منذ عام 1999. كما تُعدّ بيلاروسيا "القلعة الأمامية" لروسيا أو "منطقة محرّمة" في وجه الغرب، نظراً لموقعها الجغرافي المهم استراتيجياً بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، بعد توسعه شرقاً نحو بلدان البلطيق الثلاثة (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) وبولندا. وتنطلق روسيا من أن فقدان بيلاروسيا يضعف صلتها بجيب كاليننغراد على شاطئ بحر البلطيق، كما يجعل موسكو وسانت بطرسبورغ ومعظم مناطق غربي روسيا بحكم الساقطة استراتيجياً، في حال تمدد حلف الأطلسي إلى الأراضي البيلاروسية، ونصب منظومات للتجسس أو منظومات الدرع الصاروخي، كما هو الحال في بولندا وجمهورية التشيك.
من جهة أخرى، فإن الأوضاع في بيلاروسيا قضية روسية بامتياز، إذ لا يمكن فصل الحراك الشعبي في بيلاروسيا عن الأوضاع في روسيا، فالبلدان يجمعهما تاريخ طويل، وشعباهما متقاربان كثيراً في سماتهما لأصولهما السلافية الواحدة. ولعل الأهم أن نتائج نجاح الحراك الشعبي في بيلاروسيا يمكن أن تتسبب في زيادة المزاج الاحتجاجي في روسيا، وتشجيع مزيد من الروس على الخروج إلى الشارع بشعارات تتجاوز القضايا الخدمية ورفع سقف المطالب السياسية، فضلاً عن تمدد الحراك المتواصل منذ مطلع يوليو/ تموز الماضي من خاباروفسك في أقصى شرقي روسيا إلى أماكن أخرى. وعلى الرغم من سلوك البلدين طريقين مختلفين اقتصادياً وسياسياً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، فإن الأوضاع في كليهما باتت متشابهة.
اقتصادياً، منع حكم لوكاشينكو خصخصة المصانع والمؤسسات الإنتاجية الضخمة الموروثة من العهد السوفييتي، متبنياً مزيجاً يجمع بين الاشتراكية ومبادئ السوق الاجتماعية، لكن الفساد وسوء الإدارة وانعدام المنافسة باتت ظواهر متفشية في بيلاروسيا. وهي المشكلات ذاتها التي تعاني منها روسيا التي اتّبعت طريق الخصخصة والليبرالية في تسعينيات القرن الماضي، لكنها ومنذ صعود بوتين أعادت سيطرة الدولة مباشرة أو عبر رجال أعمال "مطيعين" على معظم القطاعات الإنتاجية والثروات الطبيعية في البلاد. بالإضافة إلى ذلك يعاني البلدان من ازدياد أعداد الفقراء، وانخفاض دخل المواطنين مقارنة ببلدان أوروبا. في المقابل، فإنه في الشق السياسي، تسمح إعادة انتخاب لوكاشينكو ومحافظته على حكمه المتواصل منذ 26 عاماً لست سنوات إضافية، في ظل حكم لم يعمل على تشكيل حزب سياسي داعم للرئيس ولا يملك أيديولوجيا محددة، باستثناء مزيج شعارات شيوعية بائدة وعداء للغرب.
ولا يختلف الوضع كثيراً في روسيا، فالتعديلات الدستورية الأخيرة تضمن بقاء بوتين سيداً للكرملين حتى عام 2036، وتظهر الاستطلاعات أن قاعدة حزب "روسيا الموحدة" تتآكل، ما أجبر مرشحيه على خوض الانتخابات في العام الماضي بصفة مستقلين. وهو ما سيتكرر في مقاطعات عدة في الانتخابات المحلية المقبلة الشهر المقبل. كما تعاني روسيا من غياب هوية أيديولوجية موحدة حتى الآن منذ انهيار الشيوعية، وتسود في البلاد أفكار تجمع بين القومية والشعبوية وكره الغرب والتحسر على الماضي الشيوعي والقيصري في الوقت ذاته مع صعود للشعارات الدينية.
وواضح أن بوتين ولوكاشينكو تحولا إلى حاكمين مطلقين بصلاحيات تتجاوز صلاحيات القياصرة ما يثير غضب أجيال تسعى إلى التغيير. وتظهر تصريحات بوتين والمسؤولين والخبراء الروس إيماناً روسياً قاطعاً بأن الغرب يسعى إلى سيناريو "الثورات الملونة"، في إشارة إلى موجات الحراك الشعبي في أوكرانيا 2004 وما عرف بـ"الثورة البرتقالية"، وأحداث الميدان في 2014، و"ثورة الورد" في جورجيا في 2003، وأدى ذلك إلى صعود قيادات جديدة في تبليسي وكييف ابتعدت عن موسكو نحو الفضاء الأوروبي. كما اندلعت ثورات أخرى في قرغيزستان وأوزبكستان. وعلى الرغم من أن المسؤولين الروس يؤكدون وجود عوامل موضوعية للحراك الشعبي في بيلاروسيا، إلا أنه من الواضح أن "فوبيا الثورات الملونة" تطغى وتتحكم في طبيعة القرارات والاستخلاصات السياسية.
ومع أن قيادات المعارضة في بيلاروسيا أكدت طبيعة العلاقات المميزة مع روسيا، مع عدم رفع المتظاهرين أي شعارات معادية لروسيا، غير أن موسكو ما تزال متوجسة وتنطلق من خشيتها في أن يكون للمعارضة أهداف خفية لم تعمد إلى رفعها خوفاً من التدخل الروسي لصالح لوكاشينكو. عملياً لم تفتح موسكو حواراً مباشراً مع المجلس التنسيقي للمعارضة، بل تلمح إلى دور غربي في تشكيل المجلس وتشكك في شرعيته وأهدافه. وترفض موسكو إزاحة لوكاشينكو، على الرغم من أنها عانت في السنوات الأخيرة من مناوراته و"مشاكساته" السياسية والاقتصادية، وتعطيله المضي بمشروع دولة الوحدة الذي كان حتى بداية العام الحالي أحد خيارات بوتين للاستمرار في حكم البلاد بعد 2024، وانتهى باعتماد الدستور الجديد "تصفير" عداد الرئاسة. وتبرز صعوبة خيارات موسكو في أنها لا تريد تكرار سيناريو خلع حليفها المقرّب، الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش، في عام 2014 بعد أحداث الميدان في كييف التي اندلعت بعد رفضه نهاية 2013 التوقيع على اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وتفضيله الانضمام إلى الاتحاد الاقتصادي، بقيادة روسيا التي قدمت قروضاً سخية بمليارات الدولارات، ووافقت على خفض أسعار الغاز لمساعدة حليفها على تجاوز الأزمة الاقتصادية لكنها خسرت في النهاية. لكن موسكو لم تستطع المحافظة على حكم يانوكوفيتش واضطرت إلى القيام بضمّ شبه جزيرة القرم ومساعدة حلفائها في شرق أوكرانيا، ما تسبب في عقوبات اقتصادية أسهمت في تراجع النمو الاقتصادي في روسيا وتراجع الاستثمارات الغربية المالية والتقنية بسبب العقوبات المستمرة حتى الآن. وبقدر ما تكشف تصريحات بوتين عن رفض الإطاحة بلوكاشينكو، فإنها تشي بحذر روسي شديد في التعامل مع الأحداث حتى لا تنقلب الأمور إلى سيناريوهات غير مفضلة على رأسها خسارة مينسك وابتعادها عن موسكو. ويبدو أن النخب الروسية تفضل مواصلة الدعم الخفي للوكاشينكو سياسياً وإعلامياً واقتصادياً من دون الحاجة إلى تدخل عسكري مباشر قد يؤدي إلى غضب شعبي في بيلاروسيا، والمراهنة على قدرة لوكاشينكو على إنهاء الاحتجاجات بأقل قدر من الخسائر.
روسيا لا تريد خلع لوكاشينكو مثلما خُلع يانوكوفيتش
وبعيداً عن أفضل الخيارات بالنسبة لموسكو، وهي المحافظة على حكم "الأب" (لقب لوكاشينكو الشعبي) مع "تقليم أظافره" والتخفيف من مشاكساته، يطرح سياسيون روس مثل رئيس الحزب الليبرالي الروسي فلاديمير جيرينوفسكي، خيار إنهاء دولة بيلاروسيا وتحويلها إلى مقاطعتين ضمن الاتحاد الروسي، بينما يطالب خبراء في السياسة الكرملين بفتح حوار مع المعارضة لتجنب خسارة بيلاروسيا. وبين هذا وذاك، الواضح أن الكرملين بات في موقف صعب، فنجاح التظاهرات والإطاحة بلوكاشينكو سوف يؤثر في الأوضاع الداخلية، وقد يفتح على تمدد حلف الأطلسي شرقاً، واتجاه بيلاروسيا نحو الغرب، وهو ما دفع بوتين إلى التلويح بسيناريو "ب" يتضمن تدخل روسيا عسكرياً. فتصريحات بوتين تبقي الباب موارباً أمام التدخل وتحدد شروطاً لأي تدخل مثل تصاعد أعمال النهب وتدمير المؤسسات العامة والفوضى، وهي شروط لا يصعب على أي نظام دكتاتوري تحقيقها عبر تكليف مجموعات تابعة له القيام بها لإظهار أن الحراك خرج عن إطاره السلمي ويهدد حياة المواطنين المدنيين.
وعلى الرغم من امتلاك موسكو أسسا قانونية للتدخل في حال تعرض الدولة في بيلاروسيا لخطر خارجي يهدد استقلالها وسلامة أراضيها، فإن التلويح بالتدخل العسكري، ربما يكون آخر الخيارات التي يمكن اللجوء إليها، نظراً لأنها ستزيد من العلاقات المتوترة مع الغرب المرشحة لمزيد من التدهور على خلفية قضية تسميم المعارض أليكسي نافالني. ويجب عدم إهمال خيار قد يكون أقل كلفة، وهو ترتيب انقلاب أبيض على لوكاشينكو ودعم مرشح جديد في انتخابات رئاسية تحدد لاحقاً يضمن مصالح روسيا وعدم إهانة لوكاشينكو أو محاكمته، ومنع المعارضين من تحقيق انتصار سياسي كبير يمكن أن ينعكس صداه في شوارع وساحات المدن الروسية.