ترامب والجيش الأميركي

ترامب والجيش الأميركي

01 ديسمبر 2018
+ الخط -
تتوتر العلاقات بين البيت الأبيض ومؤسسات الجمهورية الأميركية، منذ وصول دونالد ترامب إلى الحكم، وبشكل غير معهود. إذ واضحٌ أن ترامب، المناوئ للنظام (الديمقراطي) الأميركي القائم، يبدي ريبةً شديدةً حيال المؤسسات الأميركية التي خوّلها الدستور صلاحياتٍ يراها ترامب عقبة أمام فرض قراراته، ساعياً إلى ضرب مصداقية هذه المؤسسات، وحتى التشكيك في وطنيتها، بمجرد عدم رضوخها لقراراته.
دخل ترامب في صراعٍ مفتوحٍ مع مؤسسات الاستخبارات الأميركية، بسبب تحقيقاتها في التضليل الإعلامي الروسي، عبر منصّات التواصل الاجتماعي، لضرب مصداقية منافسته في الانتخابات الرئاسية، هيلاري كلينتون. كما دخل في صراع مفتوح مع المؤسسة القضائية، وبالتحديد المحكمة العليا، لرفضها بعض المراسيم التي وقعها، مثل التي تخص منع مواطني بعض الدول الإسلامية دخول التراب الأميركي. ومن المرجح أن تتوتر علاقته مع الغرفة السفلى للبرلمان، بعد استرجاع الحزب الديمقراطي الأغلبية عقب انتخابات التجديد النصفي الأخيرة. أما علاقته المتوترة مع الإعلام فهي سابقة لتوليه الرئاسة، وازدادت توتراً بسبب انتقاد الإعلام الأميركي سياسته محلياً ودولياً، وتعامله غير اللائق مع الصحافيين. وجديد المواجهات في هذا المجال كانت بين ترامب وصحافي "سي إن إن" المعتمد لدى البيت الأبيض، والتي على عقبها سُحب منه الاعتماد، ما جعل القناة الأميركية تلجأ إلى القضاء.
بما أن ترامب مناوئ لكل المؤسسات التي يراها جزءًا من "النظام" الذي انتخب من أجل 
القضاء عليه، حسب اعتقاده، كان لا بد من أن يمتدّ التوتر أيضاً إلى العلاقة مع الجيش الأميركي. فعلى الرغم من تعيينه ثلاثة جنرالات في إدارته (قبل إقالة الجنرال المتقاعد ماكمستر رئيس مجلس الأمن القومي)، فإن ترامب يكرّر تهجمه على رموز الجيش. وتشكل تهجماته، قبل توليه الرئاسة وبعده، على "بطل" حرب فيتنام، جون ماكين، مثالاً على ما يكنّه من استهزاء بالعسكريين، وحتى كره لهم، فهو لم ما يتردّد في استخدام عباراتٍ لا تليق لا بمقام ماكين ولا بمقامه رئيسا للولايات المتحدة. للسياسة آداب وتقاليد لا يكترث بها ترامب، فهو لم يحضر مراسيم دفن ماكين، على عكس الرؤساء السابقين (أوباما وبوش وكلينتون). كما تهجم على كل ضابط سام في الجيش الأميركي دعم هيلاري كلينتون.
وأحدث تهجم لترامب على رموز الجيش الأميركي، كان ما قاله، منذ أيام معدودة، في حق الأميرال بيل ماكرافن، قائد في البحرية الأميركية وقائد القوات الخاصة، والذي أشرف على عملية قتل أسامة بن لادن، حيث اتهمه ترامب بعدم القبض على بن لادن من قبل، على الرغم من أن الجميع في باكستان يعلم بمكان وجوده، على حد قوله. الواضح أن ترامب يجهل أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية هي من تكلف بمهمة تحديد المكان الذي يختبئ فيه بن لادن.
تبدي الصحافة الأميركية اهتماماً متنامياً بالتوتر بين ترامب والجيش الأميركي، فقد خصصت "نيويورك تايمز" مقالاً، في 16 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، لصراعات ترامب لإخضاع قيادة الجيش الأميركي لإرادته مدعمةً تحليلها بأمثلة عديدة عن توتر العلاقة بين البيت الأبيض والمؤسسة العسكرية، فمثلاً على عكس أوباما وبوش وكلينتون الذين كانوا يقطعون عطلهم العائلية، في أثناء الأعياد الرسمية، لزيارة القوات الأميركية في مسارح التدخل عبر العالم، أو في بعض قواعدها داخل الولايات المتحدة، ويزورون، في المناسبات الرسمية، المقابر العسكرية الأميركية في أوروبا (ضحايا الحريين العالميتين، الأولى والثانية)، فإن ترامب لا يمتثل لهذا التقليد السياسي، فخلال الاحتفالات بمئوية نهاية الحرب العالمية الأولى، لم يزر المقبرة العسكرية الأميركية في شمالي فرنسا بسبب المطر! كما لم يتفقد القوات الأميركية المنتشرة في أفغانستان.
الأمثلة عن توتر العلاقة بين الجيش الأميركي وقائده الأعلى كثيرة، وستزداد عدداً وحدّة بسبب سلوك الأخير، وعدم اكتراثه بالتقاليد السياسية، وعدم احترامه المؤسسات الجمهورية.
جديد فصول هذا التوتر إقحام ترامب الجيش الأميركي في تسيير تدفقات المهاجرين القادمين 
من دول أميركا اللاتينية، والذين يحتشدون على الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة. حيث لقي قراره إرسال حوالي ستة آلاف جندي من القوات العسكرية إلى هذه الحدود انتقادات في أوساط الجيش لإقحامه في شأن سياسي. وتأتي الانتقادات حتى من العسكريين الذين عملوا في إدارته، مثل العقيد المتقاعد ديفيد لابمان، الناطق باسم وزارة الأمن الداخلي في 2017، والذي صرّح بأن ترامب لا يفهم قواعد استخدام الجيش ودوره، وما يمكن ولا يمكن له القيام به. وصرح مسؤولون في البنتاغون، بشكل غير علني، بأن قرار ترامب نشر الجيش على الحدود مع المكسيك مضيعة للوقت، وهدر للموارد، إرضاء لقاعدته الانتخابية.
ما يمكن قوله، في الختام، أن سياسة ترامب القائمة على تفكيك المنظومة الدولية توازيها سياسية تفكيكية محلية، تقوم على ضرب مصداقية مؤسسات الجمهورية الأميركية، والتشكيك فيها وفي صلاحياتها، ليس لأنها عاجزة عن أداء المهام المخولة لها دستورياً، ولكن لأنها ترفض الرضوخ لأهوائه محافظة بذلك على الديمقراطية الأميركية. وربما هنا العبرة بالنسبة للدولة غير الديمقراطية، مثل الدول العربية، أين تجثم أنظمة تسلطية على صدور شعوبها منذ الاستقلال. وبما أن صمامة الأمان الديمقراطية غائبة، فإن الحاكم العربي يصقل "مؤسسات" الدولة على مقاسه وعلى هواه، وهو بذلك مستبد، فالمستبد يحكم بمنطق الهوى، على حد قول الرائد النهضوي العربي عبد الرحمن الكواكبي. ومن ثم، لا مبالغة في القول إن في هموم الديمقراطيات الليبرالية الغربية عبرة وحكمة للمنطقة العربية في زمن التسلطية (المتجدّدة).