تراجع دعم إسرائيل في الحزب الديمقراطي الأميركي

تراجع دعم إسرائيل في الحزب الديمقراطي الأميركي

12 مارس 2019

بيلوسي وإلهان عمر أمام مقر الكونغرس في واشنطن (8/3/2019/Getty)

+ الخط -
تنتمي عضو مجلس النواب الأميركي، الفلسطينية الأصل، رشيدة طليّب، إلى ما سميت "ثلة الأربع"، أي النساء المصنفات "تقدّميات"، واللواتي حملتهن أخيراً إلى مجلس النواب موجة عارمة منحت الحزب الديمقراطي أفضل نجاحاته الانتخابية منذ عام 1974، تكرّست بانتزاعه الأغلبية من الحزب الجمهوري الذي كان يستحوذ عليها منذ عام 2010. والمشترك بين النساء الأربع هو الشباب والاتجاه اليساري المميز، مقارنة مع جهاز الحزب الديمقراطي، وكلهن ينتمين إلى "الأقليات"، فرشيدة طليب فلسطينية (من مواليد ديترويت، الولاية التي تجمع غالبية الجالية من أصول سورية ولبنانية وفلسطينية في الولايات المتحدة الأميركية). أما إلهان عمر فهي لاجئة صومالية، وأيانا بريسلي فهي من الأميركيين المتحدرين من أصل أفريقي، وأوكازيو كورتيز من بورتوريكو.
وثمة قاسم مشترك آخر، نادراً ما تجده في الحزب الديمقراطي، وهو الدفاع الحماسي عن القضية الفلسطينية، إذ كانت أوكازيو كورتيز، قبل انتخابها نائبةً عن ولاية نيويورك، قد ندّدت علناً بـ"الاحتلال الإسرائيلي"، وهذا اصطلاح غير معتاد في أميركا. ولقد ضم آخرون أصواتهم إلى صوتها، كما فعلت ليسلي كوكبورن، وهي من النواب الديمقراطيين الجدد.

اضطهاد السود.. اضطهاد الفلسطينيين
لقد درج اللوبي الموالي لإسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية، المعروف باسم أيباك (الأحرف الأولى للكلمات: اللجنة الأميركية الإسرائيلية للشأن العام AIPAC)، حال انتخاب كونغرس جديد، أي كل سنتين، على دعوة الأعضاء الجدد للمشاركة برحلة مجانية إلى إسرائيل ينظمها اللوبي، ويدفع تكاليفها لمصلحة النواب الأميركيين. ويُستضاف النواب في ظروف مريحة للغاية، ويُنظَّم لهم برنامج من اللقاءات رفيعة المستوى. ولم تنتظر رشيدة طليّب الدعوة، فأعلنت، بعيد انتخابها، أنها لن تشارك برحلة السفر التي ينظمها اللوبي الموالي لإسرائيل. ولقد شبهت اضطهاد الفلسطينيين باضطهاد السود الأميركيين في فترة الفصل العنصري، وقالت إنها تود أن تدرس "الكيفية التي يعمل بها هذا الفصل، وكيف يشكل حاجزاً أمام إحلال السلام في المنطقة. سوف يركز عملي على احتجاز الفلسطينيين القاصرين وقضايا التعليم وحق الاستفادة 
من المياه، والفقر". وتضيف أن هدفها "توفير آفاق بديلة لتلك التي ترسمها لجنة أيباك"، وبما أن الزيارة تتم تحت إشراف اللوبي، فالواضح أن النواب لا يشاهدون أي شيء من حياة الفلسطينيين على الأرض، خلال رحلتهم المنظَّمة هذه.
أما إلهان عمر فقد واجهت حملةً تهدف إلى وصمها بـ"معاداة للسامية"، وهو السلاح المفضل الذي يشهر، تلقائيا، في الأوساط الموالية لإسرائيل في كل المناسبات، وفي وجه أي تنديد بسياسة الفصل العنصري الذي تمارسه بحق الفلسطينيين.

ما سبب الحملة على إلهان؟
كانت إلهان تجيب عن سؤال بشأن دعم الكونغرس الأميركي غير المشروط لإسرائيل، فقالت إن ذلك كله مردّه "البنياميون الصغار". والإشارة هنا واضحة إلى الرئيس الأسبق بنيامين فرانكلين، الذي يطالعك وجهه على الأوراق النقدية من فصيلة المائة دولار. "ما قصدك؟" سألتها صحافية. فردت إلهان: "أقصد أيباك". فأثار ردّها استنكاراً واسعاً، بلغ حد القيادة في الحزب الديمقراطي. وأُلصقت بإلهان تهمة اللجوء إلى الصورة النمطية المعهودة عند المعادين للسامية حول "المال اليهودي". وطالب فوراً رئيس الأقلية الجمهورية في مجلس النواب، كيفين ماكارثي، باتخاذ "العقوبات" ضدها، معتبراً أن تصريحاتها لا تُحتمل، وأن فظاعتها فاقت تصريحات النائب الجمهوري، ستيف كينغ (من أنصار تفوّق العرق الأبيض والمعروف بعنصريته). كما شجبت رئيسة الأغلبية الديمقراطية بشدة كلمات رفيقتها في الحزب، وبلغ الضغط حداً اضطرت معه إلهان للاعتذار علناً.
إلا أن هذه القضية لن تكون لمصلحة "أيباك"، بل على العكس، إذ يزداد في قاعدة الحزب عدد الأعضاء الذين يتساءلون: وما هو الإثم الذي ارتكبته إلهان؟ أهو قولها إن "أيباك" شأنها شأن كل جماعات الضغط (لصالح الأسلحة النارية، وصناعة العقاقير ومنتجي الصويا) تشتري ولاء النواب بتمويل حملاتهم الانتخابية؟ ولكن هذه الأمور معروفة من الجميع.
وقد هبّ لنجدة الشابة المنتخبة حديثاً اثنان من قدامى الأعضاء في اللوبي، آدي بركان، وم.ج. روزنبرغ، واستنكرا تهمة معاداة السامية التي وُصمت بها إلهان. وكتب الأول: "لقد سقطت ورقة التين. بصفتي مواطناً إسرائيلياً، ومن النشطاء الحرفيين في اللوبي، أتحدث عن خبرة، وأقول إن "أيباك" تعمل بفعالية رهيبة، وأن المرهم المُليّن الذي يلين كل عملياتها هو الدولار".
أما روزنبرغ، فلقد عمل لمصلحة اللوبي الموالي لإسرائيل على مستوى رفيع خلال 15 عاماً.
وهو يصف بالتفصيل كل الوسائل التي تلجأ إليها "أيباك"، شأنها شأن كل جماعات الضغط، وهي وسائل تكاد لا تحصى، ولا تحاول التستر في تحايلها على القانون، فالقانون يحظر رسمياً تمويل حملات النواب الانتخابية لشراء أصواتهم في ما بعد. ويستنتج روزنبرغ في صحيفة اليسار الأميركي التقليدية "ذا نايشن": "في حقيقة الأمر، وعلى الرغم من الهجمات ضد إلهان عمر في الكونغرس، وإنكار أيباك الهستيري لكونها اشترت الولاء لإسرائيل بالأوراق النقدية المسمّاة "بنيامينيات"، فإن الزمان قد تغير".

عندما يتغير الزمن
والزمن يتغير بشكل خاص داخل الحزب الديمقراطي، حيث تتزايد مع الأيام صعوبة الاستمرار في دعم سياسة رئيس حكومة إسرائيل، نتنياهو، وحيث القاعدة الشابة تتمرّد على هذا الدعم، كما فعلت "ثلة الأربع". ويتمثل هذا التغيير في الابتعاد المتسارع عن الخط السياسي الإسرائيلي، ولا سيما داخل الشريحة الأكثر شباباً في الجالية اليهودية الأميركية، ذات الأهمية التاريخية. وهذه ظاهرة ملفتة للانتباه على الساحة السياسية الأميركية، فكلما أظهر نتنياهو تقاربه من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ابتعد عن إسرائيل الشباب اليهودي المنتمي، كأهله، إلى الحزب الديمقراطي. وأن يتحول شخص مثل ديفيد روثكوبف، على سبيل المثال، أمر معبّر للغاية من هذا المنظور، فلطالما كان روثكوبف من أنصار إسرائيل، وقد نشر في يناير/ كانون الثاني 2018، في مجلة فورين بوليسي، بعد تبني الكنيست قوانين تمنع أي ناقد لسياسة الاستيطان الإسرائيلي من دخول إسرائيل، مقالا عنوانه "إسرائيل تتحول إلى سلطة 
أوغادٍ منزوعة الليبرالية، ولم يعد باستطاعتي الدفاع عنها".
أما خطاب اليمين المتشدّد الذي يتباهى بشكل حقير بالمعاناة الفلسطينية في إسرائيل، وبوفاة شابة في السادسة عشرة من عمرها، ومقتل مقعد مشلول على أيدي الجنود الإسرائيليين، فهو يوحي بأن "الآتي أعظم بعد اليوم"، كما ورد في مقاله. وأوضح أن "السياسة التي تنتهجها إسرائيل قد بينت، بشكل أوضح من أي وقت مضى، مقولة الفلسطينيين عن زيف الديمقراطية الإسرائيلية". وهذا بحد ذاته انقلاب.
وروثكوبف خير نموذج للمفكرين اليهود في الحزب الديمقراطي الذين كانوا على الدوام مناصرين لإسرائيل، والذين، شأن آخرين، ضاقوا ذرعاً بسياستها. وقد كتب ديفيد روثكوبف، في صحيفة هآرتس، الإسرائيلية، في 13 فبراير/ شباط 2019، إن قضية إلهان عمر أشاعت حالة من الرعب في صفوف "أيباك"، وأضاف "فشلت، ولحسن الحظ، محاولة هذا اللوبي الخلط بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السامية. ولئن كان علينا التصدّي لمعاداة السامية، فعلينا، في الوقت نفسه، محاربة كل من يضرب بالممارسات الديمقراطية عرض الحائط".

حملة مقاطعة إسرائيل
ويرفض مرشحون للانتخابات الرئاسية التنديد بحملة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات ضد سياسة إسرائيل الاستيطانية والمسماة "بي دي إس". وقد تجلى بشكل مذهل مدى التأثير السياسي لهذا التغيير مطلع شهر فبراير/ شباط خلال التصويت في مجلس الشيوخ على القانون الذي ساندته "أيباك" بكل ما أوتيت من إمكانات، والذي يهدف إلى السماح للولايات الأميركية بتجريم مساندة حملة المقاطعة، وسمي باختصار "قانون التصدي لـ بي دي إس". ويتعلق الأمر في الواقع بمادة أضيفت إلى قانون عام يتناول "ترسيخ الأمن الأميركي في الشرق الأوسط". صحيح أن القانون حصل على أغلبية واضحة، إذ صوت لمصلحته 77 عضوا في المجلس، واعترض عليه 23 عضوا (22 ديمقراطياً وجمهوريّ واحد)، لكن هذه الأغلبية أقل من المعتاد بكثير، حيث كان هناك شبه إجماع على مساندة إسرائيل في الماضي. والأهم من ذلك كله ستة أعضاء من أصل الأعضاء السبعة الذين ترشّحوا للانتخابات الداخلية في الحزب، والتي تهدف إلى اختيار مرشح الحزب للانتخابات الرئاسية عام 2020، صوّتوا ضد تجريم الحملة، وهم: بيرني ساندرز، وإليزابيث وارن، وكيرستن جيليبراند، وكوري بوكر، وشيرود براون، وكمالا هاريس.
وللقضية أهمية كبرى، لأن الحكومة الإسرائيلية و"أيباك" جعلتا من تجريم حملة مقاطعة السياسة الإسرائيلية رهاناً أساسياً في السياسة الدولية. هناك وزارة أنشأها نتنياهو، واسمها وزارة الشؤون الاستراتيجية، لا شغل لديها تقريباً سوى ملاحقة كل من ينتقد إسرائيل، وكل أنصار الحملة، خصوصاً في الجامعات الأميركية. وما يلاحظ أن غالبية معارضي قانون التجريم هم من الأعضاء الشباب في الحزب الديمقراطي، نصفهم من الشباب العرب، أو المسلمين، والنصف الآخر من الشباب اليهود. وليس في الأمر ما يثير العجب، فمن الطبيعي أن يشعر هؤلاء بأنهم معنيون أكثر من غيرهم بالنزاع الإسرائيلي الفلسطيني. وهو الأمر الذي يدركه جيداً المرشحون للانتخابات الداخلية في الحزب الديمقراطي. وفي حين يتابع جهاز الحزب خطه القديم في الدعم شبه المطلق لإسرائيل، برّر المرشحون جميعاً رفضهم قانون تجريم المقاطعة، باحترام التعديل الأول للدستور الأميركي الذي يصون حرية التعبير والرأي. ولكن محرّكهم الفعلي هو خوفهم من القطيعة مع قاعدتهم الانتخابية، لو انضموا إلى تحرّك التجريم. وكانت هيلاري كلينتون قد ارتكبت خطأ مميتاً، بتجاهلها وزن الشبيبة في الحزب 
الديمقراطي، الذي بات ينحو أكثر فأكثر إلى اليسار. والمرشحون لمواجهة ترامب، بعد سنة ونصف السنة، عازمون على عدم تكرار هذا الخطأ.
وثمة مجموعات مثل "شارع اليهود"، و"الآن وليس غداً"، و"أصوات يهودية من أجل السلام"، وكذلك "الحملة الأميركية لمناصرة الحقوق الفلسطينية"، تعارض بشدة تجريم حملة المقاطعة والأفكار التي ترتكز إليها. كما ترفض ذلك أيضاً الجمعية التاريخية الأميركية للدفاع عن الحريات المدنية. ونتيجة ذلك كله نلمسها في حالة كيرستين جيليبراند، التي تمثل نيويورك في مجلس الشيوخ، أي الولاية التي تجمع أكبر عدد من اليهود في العالم بعد إسرائيل، وهي حالة تلخص تماماً التحوّل الجديد، فمنذ سنتين كانت قد أعربت، من دون أي التباس، عن تأييدها تجريم المقاطعة. أما هذه المرة فقد صوتت ضد التجريم في مجلس الشيوخ.
وكمرشحة لمواجهة ترامب في عام 2020 هي تعلم جيداً أنه سيكون من المستحيل على أي مرشح أن يفوز في الانتخابات، إذا ما انقطع عن قاعدة المناضلين، فهم ينشطون في جمعيات المجتمع المدني العديدة، كما أن هذه القاعدة تزداد تحولاً إلى اليسار، حيال قضايا اقتصادية واجتماعية في المقام الأول، ولكن أيضاً في مجال القضايا الدولية.

نواب يمثلون المستقبل
ما زالت هذه القاعدة طبعاً بعيدة جداً عن كسب المعركة داخل الحزب الديمقراطي. والقائدان الرئيسيان في الكونغرس، المنتخبة عن ولاية كاليفورنيا، ورئيسة مجموعة النواب الديمقراطيين في مجلس النواب، نانسي بيلوسي، والمنتخب عن ولاية نيويورك، ورئيس مجموعة النواب الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، هذان المسؤولان يكنان مشاعر العداء لقاعدة الحزب، شأنهما شأن جهاز الحزب، فما يخشاه هؤلاء أن يؤدي هذا التحول المتزايد إلى اليسار، والذي يزيده حدةً وجود ترامب في السلطة، إلى خسارتهم الانتخابات الرئاسية مجدّداً، وهم يدركون، في الوقت نفسه، استحالة فوز الديمقراطيين، من دون تأييد قاعدة الحزب لهم، ولكنهم عازمون على أن يقدّموا لها أقل التنازلات الممكنة، حتى لا يخيفوا الناخبين الديمقراطيين الأقل جذرية، وخصوصاً الناخبين المتذبذبين. ومن وجهة نظرهم، ليس انتقاد سياسة إسرائيل ورقة رابحة.
في الوضع الحالي ليس هناك أي فرصة أن يفرض اليسار نفسه في الحزب، إلا أن التقدّم الذي يحرزه تقدّم مستمر وملموس، وتأثيره واضح تماماً على نظرة الأعضاء في الحزب، إلى النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. ويستغل هذا اليسار في نضاله التقارب الكبير بين ترامب ونتانياهو، اللذين يظهران في علاقة وطيدة، لا انفصام فيها، فأعضاء الحزب الديمقراطي يكنّون كراهية عمياء للرئيس الأميركي، وأشد الناس عداء له هم اليهود الديمقراطيون. ويلفت بيتر باينهارت، أحد المفكرين الشباب اليهود الأكثر بروزاً في الإعلام، الانتباه إلى مسألة السنّ، فالقائدان الرئيسيان في الحزب الديمقراطي، بيلوسي وشومر، يبلغان تباعاً 78 و68 عاماً، وأكبر المانحين اليهود لإسرائيل، الملياردير في الحزب الديمقراطي، حاييم سابان، والملياردير الجمهوري، شيلدون أدلسون، يبلغان تباعاً 74 و85 عاماً. كما أن المسؤولَين الديمقراطيَين اللذين ترأسا اللجنتين البرلمانيتين الأكثر أهمية بالنسبة لإسرائيل، نيتا لووي، (تخصيص المساعدات الخارجية) وإيليوت إينجيل (الشؤون الخارجية) بلغا 81 و71 عاماً. أما "ثلة الأربع" فأعمارهن بين 29 و43 سنة.
ويسأل بينهارت في أحد مقالاته: مَن مِن هذين الفريقين لديه فرصة أكبر في تحديد المستقبل؟ 
إلا أن هذا المستقبل ما زال بعيداً. ومع ذلك، ثمّة مسألة مؤكّدة: عام 2006 عندما نشر الجامعيان الأميركيان، جون مييرشيمر وستيفن والت، كتاباً عن اللوبي الموالي لإسرائيل والسياسة الخارجية الأميركية، كان الاستنكار شاملاً، وتساقطت عليهما اتهامات المعاداة للسامية من كل حدب وصوب في الولايات المتحدة، تؤجج نيرانها "أيباك". أما اليوم فقد باتت مكانة هذين الجامعيَيْن محترمة، وأصبحت أفكارهما موضع نقاش، بل وتقبّل، سواء أتعلق الأمر بانتقاد السياسة الإسرائيلية حيال الفلسطينيين، أم أضرار اللوبي الموالي لإسرائيل على السياسة الخارجية الأميركية. والأمر الذي يغفله كثيرون أن الحزب الديمقراطي هو الذي حمل تاريخياً راية الدفاع المطلق عن إسرائيل. ولم يصبح الحزب الجمهوري الحزب الموالي لإسرائيل إلا ابتداء من الثمانينيات. أما اليوم، فقد بات اليسار الديمقراطي مصدر أشد الانتقادات الموجهة لإسرائيل وسياستها الاستعمارية.
وقد بيّن، في يناير/ كانون الثاني 2018 مركز بيو (PEW)، وهو أهم مركز بحوث اجتماعية وسكانية في أميركا، في إحدى دراساته، مدى الانقلاب الحاصل في آراء الأوساط الديمقراطية لصالح الفلسطينيين، فقد سُئِل الديمقراطيون المسنون (فوق 65 عاماً) عن الطرف الذي يتعاطفون معه، فكان تفضيلهم إسرائيل بفارق 12 نقطة، أما أعضاء الحزب الذين هم في سن الـ 34 أو أقل فكان تعاطفهم مع الفلسطينيين بفارق 11 نقطة.
الواضح بالتالي أن التطوّر الحالي في الرأي العام الديمقراطي في ما يخص العلاقة مع إسرائيل مرتبط بالطفرة اليسارية التي يشهدها الحزب في صفوفه، لكنه لا يقتصر على هذه الظاهرة وحدها. وقد سعت قيادة الحزب، مع ذلك، إلى مضاعفة جهودها من أجل تهميش هذه المشاعر المتعاظمة والمعادية لإسرائيل داخل الرأي العام الديمقراطي، وبما أن الهجوم الأول على إلهان عمر انتهى بالسرعة التي هبّ بها، فلقد شُنّ عليها هجوم آخر في 4 مارس/ آذار الجاري، للنيل من مصداقية الشابة المسلمة العضو في مجلس الشيوخ، ونعتها بأنها "معادية للسامية".
وكانت إلهان عمر قد أشارت، في شريط فيديو من 20 دقيقة، إلى قضية حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وألمحت إلى "النفوذ السياسي الذي يمارَس في هذا البلد، ويعتبر أنه من الطبيعي دفع الناس إلى الولاء لبلد آخر. كيف يكون من الطبيعي أن أتحدث عن نفوذ لوبي بيع الأسلحة، ولوبي النفط، ولوبي صناعة العقاقير، ولا أستطيع التحدث عن لوبي جبار يؤثّر في سياسة الولايات المتحدة الأميركية؟"ـ وكانت تقصد اللوبي الموالي لإسرائيل (أيباك). وقد جاء الهجوم، هذه المرة، من دونالد ترامب نفسه، إذ تجاهل كل المقاطع الخاصة بالاحتلال الذي يعاني منه الفلسطينيون، وندّد بـ"التعليقات الرهيبة حول إسرائيل" على لسان النائبة الديمقراطية، وأضاف "لا مكان لمعاداة السامية في الكونغرس". وضم صوته إلى جوقة النواب الديمقراطيين الذين وزّعوا عريضة داخل لجنة الشؤون الخارجية لإقالة إلهان عمر من هذه اللجنة التي هي عضو فيها. وكانت رئيسة مجلس النواب، الديمقراطية نانسي بيلوسي، قد اتهمت بالفعل إلهان عمر بأنها تتبنّى صورة نمطية قديمة تنضح بمعاداة السامية، وهي التهمة التي توجّه إلى اليهود "الذين لديهم ولاء مزدوج"، بل يعلو ولاؤهم لطائفتهم على ولائهم للبلد الذي يحملون جنسيته. وقد ذكّرت بيلوسي بـ"أن تهمة الولاء المزدوج تعود إلى تاريخ خبيث يغذيه التعصب"، إلا أن النائبة الشابة لم ترضخ لمحاولة التخويف، فردّت: "كل يوم يقولون لي إنني قد أكون معادية لأميركا لأنني لست موالية لإسرائيل. معارضة نتنياهو والاحتلال لا تعني 
معاداة السامية. وأنا ممتنّة لحلفاء يهود عديدين عبروا عن هذا الرأي نفسه". وهذه المرة أيضاً خرجت إلهان منتصرة من السجال. حصلت أولاً على مساندة مرشحين عديدين للانتخابات الداخلية في الحزب، وكانت إليزابيت وارن أكثرهم شدّة: "لوصم أي انتقاد لإسرائيل، بشكل آلي، بمعاداة السامية أثر كارثي على الخطاب العام، ويزيد من صعوبة التوصل إلى حل سلمي بين الإسرائيليين والفلسطينيين". ولكن الفوز الحقيقي تمثل بأن التحالف بين يسار الحزب وفريق النواب السود (بلاك كوكس) وقسم مهم من النواب الديمقراطيين الجدد قد حال دون تبنّي القانون الذي اقترحته نانسي بيلوسي.
أما القانون الجديد الذي تبنّاه الديمقراطيون، في نهاية المطاف، فهو على شاكلة التسويات الرديئة: قائمة بالنيات الحسنة تشجب، من دون أي تمييز، كل أنواع العنصرية: معاداة السامية، معادة السود، معاداة المسلمين، .. إلخ. ولكن أهم ما في الأمر: لقد أَسقَط القانون الجديد تماماً فكرة المساواة بين تهمة "الولاء المزدوج" ومعاداة السامية، كما أسقط أية عقوبة تجاه إلهان عمر. كما ذكّر القانون بأن عدد الأفعال المعادية للسامية ازداد في الولايات المتحدة بنسبة 37%، في حين ازداد عدد الأفعال المعادية للمسلمين بنسبة 99%. وختاماً، استهدف القانون اليمين المتطرّف أكثر بكثير مما يستهدف المسلمين، بتهمة بث الأفكار المعادية للسامية في الولايات المتحدة الأميركية. ونوّه القانون بشيءٍ من السخرية "بأن جعل اليهود كبش فداء" تقليد درجت عليه في التاريخ الأميركي "جماعات كجماعات كلو كوكس كلان، والنازيين الجدد، ولجنة أميركا أولاً". وهذا يعتبر غمزاً من قناة دونالد ترامب، فلجنة "أميركا فيرست" (أميركا أولا) هي صاحبة شعار "أميركا أولاً" الذي جعله ترامب شعاراً لحملته الانتخابية، وهي حركة يمينية متطرفة، تنادي بالحمائية الجمركية، وبمعاداة السامية، وكان لها وجود عابر في بداية الأربعينيات من القرن الماضي.
تتصاعد في الولايات المتحدة الأميركية الهجمة الدولية التي ينسقها بنيامين نتنياهو، بهدف الخلط بين أي انتقاد للصهيونية ولسياسة إسرائيل والمناداة بمعاداة السامية. والواضح أن هذه الهجمة تصطدم بمقاومة أقوى مما كان يتوقع مُروِّجوها.
avata
avata
سيلفان سيبال
سيلفان سيبال