تراجع الديمقراطيات الغربية [2-2]..."القانون" أداة التنكيل بالجمعيات والناشطين الفرنسيين

تحقيق فرنسا 1
22 يونيو 2020
+ الخط -
 
جُوبهت الاحتجاجات المتنوعة التي اندلعت منذ وصول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه، بـ"عنف بوليسي غير مسبوق"، نتح عنه حصيلة كبيرة من الضحايا، وفق تقييم جان بيير لونوار، الناشط في جمعية "الحقيقة لآداما"، والتي تناضل من أجل معرفة المسؤول عن موت الشاب من أصول مالية أداما تراوري أثناء اعتقاله من طرف الدرك، بشكل خاص، وتندد بالعنف البوليسي، بشكل عام.

وتفاقمت انتهاكات الشرطة الفرنسية لحقوق الإنسان، خاصة بعد تظاهرات "السترات الصفراء"، إذ إن كثير من الأحياء والساحات محظورة عليهم، وأحيانا "مجرد ارتداء السترة الصفراء، يعد سببا كافيا للاعتقال، ولهذا السبب يفضل المتظاهرون إخفاء السترات" كما يقول لـ"العربي الجديد"، جيروم رودريغيز، وهو من ناشطي السترات الصفراء المعروفين، كما أنه خسر إحدى عينيه بسبب مقذوف أطلقته الشرطة.

ويعتبر جيروم رودريغيز، الذي التقاه معد التحقيق في تظاهرة ضد الإسلاموفوبيا في باريس، أن الوضع في ظل ولاية إيمانويل ماكرون أسوأ من سابقه الرئيس هولاند قائلا: "القمع البوليسي غير مشهود، من قبل، وباعتراف نقابات الشرطة نفسها. أحيانا يهاجم أفراد الشرطة أناسا فقط لأنهم لبسوا سترات صفراء. ويمنعون كل لابس للسترة الصفراء من التواجد في بعض الساحات"، وأضاف: "كنا نتظاهر في السابق بمرح، وأصبح المتظاهرون اليوم، يخافون ألا يعودوا أو يفقدوا عيونهم أو أطرافا من أجسادهم"، وختم: "لا تجد في الحراكات الاجتماعية السابقة هذا الكمّ الهائل من المعتقلين ومن الجرحى. الحكومة الفرنسية أصبحت متسلطة، ولا ترى من حل سوى المقاربة الأمنية والقمعية، رغم انتهاك حقوق الإنسان والتعبير والتظاهر".
 
 
 

عنف شٌرطي غير مسبوق

لا تتوقف انتهاكات الشرطة ولعل من أهمها وأحدثها، المقطع الذي نشره يوم 1 يناير/كانون الثاني 2020، اليوتيوبر التونسي بيكر، على شبكات التواصل الاجتماعي، وهو يقص حكايته التي جرت يوم 9 يوليو/تموز 2019، حين كان يصوّر مشهدا يقوم فيه رجال الشرطة بتفتيش أحد المواطنين، لكن الشرطة هشمت الكاميرا وأطلقت تجاهه أوصافا عنصرية، وبعد تردد طويل، قرّر في 14 ديسمبر/كانون الأول 2019 تقديم شكوى لدى "المفتشية العامة للشرطة الوطنية".

ويجب انتظار شهور عديدة، قبل معرفة نتيجة الشكوى، لأن المفتشية بطيئة، إذ فتحت أكثر من 300 تحقيق، منذ اندلاع حراك "السترات الصفراء"، وسلمت ثلثيها إلى العدالة. ولم يصدر أول حكم قضائي ضد أفراد الشرطة المسؤولين إلا يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 2019، أي بعد أكثر من سنة من اندلاع "السترات الصفراء"، وكان شهرين سجنا مع وقف النفاذ.

وفي حصيلة (إلى حدود 29 أغسطس/آب 2019) وثقت أمنستي فرنسا نقلا عن إحصاءات وزارة الداخلية، جرح 2495 من المتظاهرين، من بينهم 25 شخصا فقئت إحدى عينيه، ومنهم من قطعت يده، و561 شكوى لدى المفتشية العامة للشرطة الوطنية، و313 تحقيقا قضائيا للمفتشية، و8 تحقيقات إدارية و15 تحقيقا قضائيا لدى المفتشية العامة للدرك الوطني، و180 تحقيقا لدى النيابة العامة.
 
 
 

وفي ما يخص القوانين المنظّمة للتظاهر في فرنسا، فليس سرا، كما تقول رابطة حقوق الإنسان، التي تأسست سنة 1898، أن "الحكومة الفرنسية، مارست تشددا كبيرا بعد الاعتداءات الإرهابية التي ضربت فرنسا، خاصة عام 2015، والتي دفعت السلطات الفرنسية إلى مكاتبة مجلس أوروبا (Conseil d’Europe)، لإخباره بالخروج من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان، في إطار قانون الطوارئ الذي تم إقراره بعد الاعتداءات، حتى تحمي نفسَها من احتمال محاكمتها من قِبل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. ومن ضمن الإجراءات التي لجأت إليها، إصدار الأمر بالتفتيش، نهارا وليلا، دون المرور بسلطة قضائية، وأيضا الإقامة الجبرية على من يشكّل، في أعين السلطات، خطرا على الأمن والنظام العام".

"ويُخشى أن تسوء الأوضاع أكثر"، كما يقول المحامي في محكمة باريس، آصف عارف، خاصة مع تقدم النائب في مجلس الشيوخ من حزب "الجمهوريون" اليميني المعارض، وهو جان بيير غراند، بطرح تعديل يقترح معاقبة بثّ صُوَر القوى الأمنية، وذلك بهدف توفير الحماية لها". و"هو ما يطرح تساؤلات مقلقة حول حرية نقل المعلومة وتقديم الشهادات عن العنف البوليسي".



قضاء غير مستقل


تستطيع الجمعيات الحقوقية والمحامون اللجوء إلى القضاء. ولكن القضاء الفرنسي، وكما يقول لـ"العربي الجديد" رئيس رابطة حقوق الإنسان، مالك سلمكور، "بطيءٌ حين يتعلق الأمر بالضحايا من المتظاهرين". ولحدّ الساعة، وبعد أكثر من سنة على اندلاع حراك "السترات الصفراء"، لم يُحاكَم سوى شرطيَيْن فقط، بسبب ممارسة العنف على متظاهرين، وحصلا على شهري سجن مع وقف التنفيذ، في حين أن العشرات من قوى الأمن بُرّئوا في التحقيقات وقبل الوصول إلى القضاء، بينما صدرت أحكام على 3100 متظاهر، أُودِعَ 400 منهم السجن على الفور".

ويستطيع أي مواطن أو جمعية اللجوء إلى القضاء، ولكن إضافة إلى بطئه الشديد حين يتعلق الأمر بشكاوى ضد الدولة، فإن الكثيرين يعتبرون القضاء الفرنسي غير مستقل، تماما، لأن النيابة العامة غير مستقلة وتتبع الإدارة المركزية لوزارة العدل. ومثلما عبّر المدرس والباحث في المركز الوطني للبحث العلمي بمدينة نيس بيير ألان مانوني، الذي حوكم، أكثر من مرة بعدما أوقف يوم 18 أكتوبر/تشرين الأول في الطريق، لأنه كان يحمل في سيارته ثلاثة مهاجرين إريتريين جرحى بغرض نقلهم إلى مستشفى في مارسيليا، فإن "القاضي يمكنه دائما أن يشكك في وجود رغبة ما ربحية، وراء عملك التضامني مع مهاجرين سريين، وهذا على الرغم من أن "المجلس الدستوري وقف معي وعاقب قانونا غير عادل بعد أن أعلن أعضاء المحكمة الدستورية في يوم 6 يوليو/تموز 2018، عن اعترافهم بالأخوة باعتبارها مبدأً دستوريا، باسم المادة الثانية من إعلان حقوق الإنسان واعتمادا على ديباجة الدستور. كما أن البرلمان سطّر مادة جديدة كما أن محكمة النقض أوقفت الاتهام المخالف لمبدأ الأخوّة. ولكن هذه الأخيرة طالبت بمحاكمة جديدة على ضوء القانون الجديد. والنتيجة هي أني بعد 3 سنوات ونصف لا أزال أتساءل إن كان قانونيّاً تقديمُ المساعدة لشخص يوجد في حالة ضيق".
 
 
 

استهداف الناشطين في مساعدة المهاجرين

تستهدف السلطات الفرنسية الجهات الأكثر هشاشة والتي تنشط في مساعدة المهاجرين، فمن الصعب عليها أن تضغط على أطباء أو محامين يدافعون عن مهاجرين، في حين أن من يمارس العمل اليومي لمساعدة المهاجرين وطالبي اللجوء يتعرضون لضغوط وتهديدات. وفق ما وثقه رافائيل فليشمان مسؤول الاتصال في جمعية لاسيماد (تقدم المساعدة القانونية للمهاجرين)، ولفت المسؤول في لاسيماد إلى بيان مشترك بين خمس جمعيات، أمنستي ولاسيماد وأطباء العالم وأطباء بلا حدود، والإغاثة الكاثوليكية، نشر يوم 4 ديسمبر/كانون الأول 2019، عدّد مظاهر تقصير الحكومة والإخلال بواجباتها، وخاصة تجاه "مجموعة المواطنين والتجمعات والجمعيات التي تقدّم العون للمنفيين. إذ بدل تشجيعهم في مهماتهم، فإنهم يواجهون ممارسات تهديد بالاعتقال والتحرش ومتابعات قضائية.

وفي بعض الحالات، وصل الأمر إلى أحكام قضائية، في حق مواطنين متضامنين، فـ"الحكومة والسلطات لا تجرؤ على محاكمة جمعيات ومنظمات، وتحرص على الظهور بمظهر المتفاوض معها"، كما يؤكد فليشمان. قائلا يتم ذلك على الرغم من أن القانون الدولي واضحٌ، وهو أن مساعدة أشخاص لاجئين أو مهاجرين لا يعتبر مخالَفة، وبالتالي لا يجب إجراء أي متابعة جزائية.

وتنوعت الضغوط على من يساعدون المهاجرين، ففي مدينة "كاليه"، طلبت البلدية من جمعية "مأوى المهاجرين" أن يكون مطبخها منسجما مع المعايير المطلوبة حتى يتسنى لها تقديم الطعام للمهاجرين، وهو ما يتطلب كُلفة مالية عالية وفي باريس، تعرّضت جمعية "أطباء العالَم" لضغوط غير مباشرة، في أكتوبر/تشرين الأول 2017، ولكنها تؤثّر على طبيعة عملها في إسعاف المهاجِرين، إذ فرضت على حافلتهم غرامة مالية، بدعوى أنها رُكنت في مكان غير قانوني. وهي "إجراءات، كما يقول باتريك هينريوت، القانوني والعضو في جمعية إعلام ودعم المهاجرين "جيستي"، في ظاهرها "قانونية"، ولكن سيارات المسعفين والأطباء، كانت تحظى في السابق بكثير من التسامح، وهو ما ينشُر مناخاً من االقمع تجاه من يبادر إلى مساعدة المهاجرين".

وبعد عام على إقرار مبدأ الأخوة تحصي جيستي، 16 متابَعة بتهم المساعدة على الدخول والتنقل والإقامة غير القانونية، صدر بعدها 15 حكماً ثقيلا، ضد مواطنين (ما بين شهر وشهرين و6 أشهر سجن مع وقف النفاذ وغرامات تصل أكثرها قسوة إلى 4900 يورو). إضافة إلى 15 متابعة قضائية بحجج أخرى (منها تمرد وشتائم علنية وأيضا عرقلة سير طائرة، إلخ)، صدرت فيها 8 إدانات، بينما سجلت 646 حالة انتهاك ضد مدافعين عن حقوق الإنسان، وفق دراسة مشتركة لأربع منظمات منها يوتوبيا 56 خلال الفترة من 1 نوفمبر 2017 وحتى يوليو 2018، أظهرت وقوع مضايقة وترهيب وعنف ضد متطوعين من قبل القوى الأمنية خلال فترة إنجاز الدراسة، تبدأ من الرقابة الآلية على الهوية، إلى الغرامة المالية فالتهديد والكلام البذيء فالعنف الجسدي، ورصدت المنظمات 72 حالة مطلع 2019، موضحة أن هذا الرقم لا يعكس الحقيقة فهناك حالات لا يكشف عنها.