تدهور أسعار النفط.. الأسباب وقابلية للاستمرار

تدهور أسعار النفط.. الأسباب وقابلية للاستمرار

05 فبراير 2015

إحدى مصافي النفط في تكساس (Getty)

+ الخط -

تحظى أسعار النفط باهتمام كبير، أكبر من أي سلعة أخرى، والسبب أهمية هذه المادة الاستراتيجية التي ما زالت تشكل مع الغاز أكثر من 60% من مصادر الطاقة في العالم، وتأثيرها الكبير على أسعار بقية السلع والمنتجات، وعلى أسعار العملات الصعبة، وعلى أوضاع شركات عملاقة، ذات قدرات كبيرة ومصالح هائلة. كما أنها تحظى بأهمية كبيرة، بسبب التناقض بين مصالح المنتجين ومصالح المستهلكين. ويأخذ هبوط أسعار النفط، في الشهور الأخيرة، أهمية استثنائية، لأنه حدث بشكل متسارع، وبنسبة كبيرة تعدت 50%، مسببة خسائر هائلة للدول المنتجة المصدرة، وفوائد كبيرة للدول المستهلكة، وخسائر كبيرة لشركات النفط عبر العالم.

على الرغم من أن أسعار النفط تتشكل عبر تقاطع العرض والطلب في السوق، فإن كميات العرض والطلب عرضة للتحكم بها، وبالتالي، التحكم في أسعار النفط، فهي مادة يتحكم عدد محدود من الدول بنسبة كبيرة من المعروض في الأسواق العالمية، وهي، بالتالي، تختلف عن سلعة عادية، ينتجها ويستهلكها عدد غير محدود من المنتجين والمستهلكين، بحيث يصعب التحكم بالمعروض والتحكم بالسعر.

ببساطة، هبطت أسعار النفط الخام، لأن منظمة أوبك، وبضغط من السعودية خصوصاً، قررت عدم خفض إنتاجها، على الرغم من تزايد إنتاج بعض الدول، وخصوصاً تزايد إنتاج الولايات المتحدة من النفط الرملي. وتملك السعودية قدرة تأثير كبيرة، لكونها ثاني منتج في العالم بعد روسيا، إذ تنتج قرابة عشرة ملايين برميل يومياً من أصل 92 مليون برميل، هي مجمل الإنتاج اليومي العالمي، لكنها هي المصدر الأكبر للنفط، إذ تبلغ صادراتها أكثر من 6.5 ملايين برميل نفط يومياً، وقد حافظت السعودية على مستوى إنتاجها السابق، وعوضت أي نقص موجود في سوق النفط العالمية، بل أغرقت السوق بكميات إضافية، خارج حصتها، وهذا ما تفعله عدة دول أخرى منتجة ومصدرة للنفط، إضافة إلى عرض السعودية الخام بأسعار أدنى من سعر السوق، كي تتبعها السوق. والنتيجة المضمونة لهذه الممارسة هبوط الأسعار الذي يكبد الصادرات السعودية خسائر تبلغ 4-5 مليارات دولار شهرياً. فلماذا تتكبد السعودية، ومثلها الإمارات وبقية الدول المصدرة للنفط هذه الخسائر؟

تختلط لدى السعودية، ومعها الإمارات، غايتان من خفض الأسعار: الضغط على إيران التي باتت تتمدد في المنطقة من دون رادع، ومن دون مراعاة لمصالح الآخرين، فإيران تؤمن أنها القوة الصلبة الأقوى في المنطقة، وعلى الآخرين التسليم بقيادتها. ولذلك تضغط على شرق السعودية، وفرضت سيطرتها على العراق وعلى سورية، وتتحكم بلبنان بواسطة حزب الله، ولها مطامع معلنة في البحرين، وتدفع لتحريك المعارضة المرتبطة بها ضد النظام القائم، وقد أفزع السعودية خصوصاً هجوم حلفائها الحوثيين على اليمن، وسيطرتهم عليه، ما يعني أن إيران تحاصر السعودية التي تخاف من التقارب الأميركي الإيراني وموقف السعودية المعادي لهذا التقارب أمر غير مخفي.

الغاية الثانية، سعي السعودية إلى الحفاظ على حصتها في سوق النفط مستقبلاً، عبر إخراج الشركات التي تنتج النفط الصخري الذي يتوقع تزايد إنتاجه بشكل كبير في السنوات المقبلة، إن بقيت الأسعار مرتفعة، مهدداً بذلك أسواق النفط التقليدي. وبالتالي، ستخرج الأسعار المنخفضة شركات النفط الصخري التي تزيد تكاليف إنتاج البرميل فيها على 50 دولارا، ستخرجها من الإنتاج، أي جميع هذه الشركات إن بقي سعر البرميل أقل من 50 دولارا فترة طويلة. ونعتقد أن هذا سبب ثانوي، فطالما أن النفط الصخري مرتفع التكاليف، فلن يشكل تهديداً للنفط التقليدي السعودي والخليجي، حيث تنخفض تكاليف إنتاج البرميل إلى بضعة دولارات، ولا يزيد وسطياً عن عشرة، إضافة إلى جودة نوعيته. وبالتالي، سيكون من مصلحة شركات النفط الصخري أن ترتفع الأسعار في الأسواق، محققة أرباحاً ريعية أكبر للبلدان المنتجة للنفط، منخفض التكلفة، وستكون السعودية، ومن شابهها، قادرة، في أية لحظة، على أن تبيع أي كمية تريدها، بالأسعار الجارية المرتفعة، عبر منح خصم بسيط في السعر عن سعر بورصة النفط، إذ ستبقى الأسعار مرتفعة، لكي يستمر النفط الصخري في الإنتاج، وستستطيع السعودية عبر التحكم بكمية المعروض أن تحدد كمية النفط الصخري المعروض في أسواق النفط العالمية. وبحساب بسيط، يتبين لدينا أن السعودية تحقق عائداً أفضل بكثير، إن ارتفعت الأسعار، إلا إذا تم تطوير تكنولوجيا استخلاص النفط الصخري، بحيث تهبط تكاليف إنتاجه إلى مستويات النفط التقليدي، وهذا لا يبدو قابلاً للتحقيق. ويبقى السبب الرئيس، في اعتقادنا، الضغط على إيران.

وعلى الرغم من سياسة "أوبك" عدم خفض إنتاجها، والذي تسبب بخفض الأسعار، ويتسبب بخسائر كبيرة للولايات المتحدة، فإن القرار السعودي لا يمكن أن يتم من دون تنسيق مع الولايات المتحدة، فالولايات المتحدة وشركاتها النفطية الكبرى لا تجلس مكتوفة الأيدي تنظر وتراقب وتستقبل النتائج الموجبة والسالبة، من دون أي رد فعل، وكأن القرار جاء على الضد من إرادتها أو صمتت عنه فقط. ونحن نعلم أن أميركا لا تتساهل، ولا تصمت عن أي تغير كبير في أسعار أهم مادة استراتيجية على الإطلاق، خصوصاً أنه يعرّض قطاعها من النفط الرملي للإفلاس، والخروج من الإنتاج، وهي التي خططت استراتيجياً لكي تزيد إنتاجها من النفط الصخري، وعملت لرفع أسعار النفط، ليغدو هذا المصدر مربحاً، بينما جاء قرار "أوبك" ليعارض هذه الاستراتيجية، ويواجهها ويحبطها. فكل هذا لا يجري بدون موافقة أميركية، بل بدون قرار أميركي، وليس بصمت أميركي.

تتلاقى مصالح السعودية في خفض أسعار النفط مع مصالح الولايات المتحدة التي تتكبد، هي الأخرى، خسائر جراء هذا الخفض. إذ تحتاج أميركا للضغط على إيران، لتليين موقفها في مفاوضات ملفها النووي، حيث تدور المفاوضات، الآن. وبالفعل، جرى تقارب في محادثات جنيف أخيراً، وقدمت طهران تنازلات مؤلمة، كسرت كبرياءها. كما أن أميركا تحتاج للضغط على موسكو، من أجل الملف الأوكراني، فبعد أن سلخت موسكو جزءاً من الدولة الأوكرانية، تستمر في دعم الانفصاليين، وتسلحهم بما يزعزع استقرار أوكرانيا، ويهدد بتوسع الصراع. والضغط بواسطة أسعار النفط مؤلم جداً، لكل من إيران وروسيا، لأن صادرات النفط تشكل المصدر الرئيس للعملات الصعبة في البلدين، وانخفاض الواردات من العملات الصعبة يخفض قيمة العملة الوطنية، ما يرفع الأسعار في الأسواق المحلية، وخصوصاً أسعار المستوردات، سواء كانت هذه سلعاً استهلاكية جاهزة، أو كانت مستلزمات إنتاج نصف مصنعة أم خاماً. وهذا يخلق ضغوطاً على خزينة الدولة، وعلى قدرتها على تنفيذ مشاريع كثيرة، ويخلق غضباً في الشارع. وبالتالي، شكل تلاقي المصالح الأميركية السعودية الغطاء السياسي لقرار خفض أسعار النفط الخام.

من جهة أخرى، أحدث خفض النفط فوائد كبيرة للدول المستهلكة، مثل: أوروبا والصين والهند واليابان ودول أخرى كثيرة غيرها، وهي ترحب بهذا الخفض وتتمنى إدامته، على الرغم من أضرار يلحقه بها الخفض، فهو يعزز النمو الاقتصادي فيها. فهو يؤدي إلى انخفاض أسعار الوقود وتكاليف الطاقة، وبالتالي انخفاض تكاليف المنتجات وأسعار المستهلك، ما يرفع القدرة الشرائية للمستهلكين، فينعكس إيجابا على عجلة الإنتاج والنمو الاقتصادي وفرص العمل. هذا يضيف عاملاً آخر للعوامل المحرضة على خفض الأسعار.

دوافع هذا الخفض القياسي "الدرامي" لأسعار النفط هي تلاقي عدة عوامل ومصالح، يتشابك فيها الاقتصادي بالسياسي، والمصالح الأميركية مع المصالح السعودية والخليجية التي تجتمع لتفسيره وتبريره، غير أننا لا نعتقد بقابلية هذا الخفض للاستمرار، فحتى السعودية قدرتها على تحمل الخسائر محدودة، وقد لا يطول الوقت حتى نشهد ارتفاع الأسعار، حتى لو شهدت مؤقتاً مزيداً من الانخفاض، غير أن قدرة روسيا وإيران محدودة أكثر، فمن سيصرخ أولاً؟