تحييد المساجد في تونس.. أزمة قديمة

تحييد المساجد في تونس.. أزمة قديمة

21 مايو 2014
مسجد عقبة بن نافع في القيروان (GETTY)
+ الخط -

نجحت النُخَب السياسية التونسية في تجاوز أكبر المعوّقات التي طرحت أمامها بعد الثورة وقفزت فوق أكثر المواضيع الشائكة التي عصفت بدول كثيرة قبلها على مر التاريخ، وهي قضية علاقة الدين بالسياسة، برغم الثمن الذي كان باهظاً جداً.

ومباشرة بعد الثورة، استدعت الأحزاب التونسية موضوعاً قديماً لم يطرح بذلك التشنج إلا في ساحات الجامعة التونسية، التي كانت تستأثر بمثل هذه القضايا، واصطفت الأحزاب بين مناصر لعلمانية الدولة ومتشبّث بالأصول الاسلامية لتونس، ودخلت البلاد في صراع حقيقي أنقذتها الحكمة في أمتاره الأخيرة وتغلب صوتها على أصوات الانقسام والتفرقة.

ولم يكن عموم التونسيين من غير المتحزّبين معنياً كثيراً بهذه الأفكار، لأنها حسمت نهائياً في تشكيل هويته العربية الاسلامية المنفتحة والمعتدلة منذ قرون مضت. وكانت المساجد بطبيعة الحال في قلب هذه النقاشات بين داعٍ إلى تحييدها ومدافع عن دورها في الدنيا كما في الآخرة.

وتضم تونس نحو خمسة آلاف مسجد في أنحاء البلاد، اتفقت الأحزاب المشاركة في الحوار الوطني، الذي أفضى إلى حكومة جديدة، على خارطة طريق يجري إعدادها، ومن بين بنودها تحييد المساجد، وهو ما دعا حكومة مهدي جمعة إلى الشروع في تنفيذها بمجرد تسلّمها لمهامها.

وتقول وزارة الشؤون الدينية إنها "استرجعت" معظم المساجد ولم يبق منها أكثر من 90 مسجداً خارج السيطرة، وهي بصدد العمل على استرجاعها في غضون ثلاثة أشهر.

ولكن الأمر ليس بالسهولة التي يتصورها البعض، فبعد أيام من قيام الثورة عمدت الجماعات الدينية المتشددة المختلفة إلى السيطرة على مئات المساجد وعيّنت فيها مقربين منها، وكانت وفق بعض المعلومات، تستغلها مقرات لاجتماعاتها وأحياناً مستودعات لأسلحتها ومنطلقاً لتظاهراتها، وشكلت بعض المنابر أيام الجمعة خطابات وصفت بالمحرّضة على العنف وبثّ التفرقة.

ومن أجل الحد من استغلال المساجد كفضاء للتحرك، قررت وزارة الشؤون الدينية أخيراً إغلاق المساجد بعد صلاة العشاء وفتحها نصف ساعة قبل صلاة الفجر، على أن تُغلق بعد ذلك وتُفتح من جديد قبل صلاة الظهر. ونفت الوزارة أن تكون قررت توحيد خطب الجمعة كما كان يحدث قبل الثورة عندما كانت كل المساجد تردد الخطب ذاتها من شمال البلاد إلى جنوبها.

وكانت وزارة الشؤون الدينية أصدرت أكثر من بيان تبعاً لما أثير من تساؤلات حول طبيعة الخطاب الدّينيّ وحياديّة المساجد، قالت فيها إنها "حرصت على تولية المنابر لمختصّين أكفاء مؤهّلين علميّاً لطرح القضايا بشكل علميّ وميزان شرعيّ دقيق. مؤكدة موقفها المبدئيّ من رسالة المسجد التّربويّة والحضاريّة بعيداً عن التّجاذبات السّياسيّة والتّوظيف الحزبيّ، وأنّ معظم المساجد في البلاد أسهمت وتسهم في نشر خطاب وسطيّ معتدل يدعو إلى الألفة والوحدة وينبذ العنف والاعتداء".

وتقول وزارة الشؤون الدينية إن حوالى 40 مسجداً تصنّف بالخطيرة ولا تزال تخضع لسيطرة جماعات متطرفة دينياً.

ورفض إمام جامع الزيتونة الكبير، حسن العبيدي، "تحييد المساجد"، وقال إن "الجامع الأعظم (جامع الزيتونة) غير معني ببرنامج تحييد المساجد الذي أعلنته حكومة مهدي جمعة، لأن الجامع محايد ومستقل بطبعه، ووفقاً للقانون".

وتستعين وزارة الشؤون الدينية بوزارة الداخلية لحل المشاكل التي تحرز فيها تقدماً واضحاً، ولو بطيئاً.

وصراع الحكومة مع الجماعات المتطرفة حول المساجد هو جزء من صراعها معها على كل الأصعدة، ويبدو أن النجاحات التي حققتها الحكومة في القضاء على الإرهاب في جبل الشعانبي وفي إحباط عمليات إرهابية والقبض على عدد كبير من قادة هذه المجموعات سيسهّل من عملية استعادتها لبقية المساجد.

وقال استطلاع للآراء، نشرت نتائجه أخيراً، إن التونسيين راضون عن أداء الحكومة في ما يتعلق بمقاومة الإرهاب بنسبة تفوق 60 بالمئة، وليس هناك شك في أن بعض المساجد كانت تروّج لخطاب العنف وتكفّر بعض السياسيين، ولقطات فيديو لهذه الخطب رائجة وتناقلته صفحات التواصل الاجتماعي بالآلاف، ولعل الشهيد شكري بلعيد كان من أكثر الشخصيات التي طالتها هذه الخطب التكفيرية التي يقول مناصروه إنها أعطت الضوء الأخضر لاغتياله، وهي لحظة فارقة في تحول الساحة السياسية التونسية، دعَمَها اغتيال الحاج محمد البراهمي الذي لم يمنع حجّه ولا حجاب زوجته من اعتباره عدواً للجماعات المتشددة دينياً.

ولكن هذه ليست كل الحقيقة. فهناك من الأطراف السياسية مَن يعتبر المساجد "خزاناً انتخابياً" وحملة انتخابية مفتوحة ومستمرة وناجعة، باعتبار أن ملايين المصلين مستعدون في معظمهم، تلقائياً، لتقبّل ما يقوله الإمام، ولذلك جاءت دعوات تحييد المساجد عن الخطابات الحزبية التي تنتصر لطرف على آخر، واشتدت هذه الدعوات خصوصاً بعد فوز حركة النهضة في الانتخابات الماضية التي يرى خصومها أن المساجد لعبت فيه دوراً مهماً.

ولم تقتصر الأصوات التي تدعو إلى تحييد المساجد على الأحزاب السياسية فقط، وإنما تجاوزتها إلى جمعيات المجتمع المدني وحتى بعض الرموز الدينية الوسطية التي تعلن صراحة عداءها للمجموعات المتطرفة، مثل الشيخ فريد الباجي، الذي انضم إلى تنسيقيّة مبادرة تحييد المساجد عن التحزّب والخطابات المذهبيّة، والتي نظمت ندوة مهمة بعنوان "كيف نضمن حياديّة بيوت الله؟".

وتتكوّن التنسيقية من أحد عشر عضواً ممثلين لبعض الأحزاب ومكوّنات المجتمع المدني ومستقلّين.

ولم تخرج حركة النهضة عن هذه الدعوات، فقال رئيسها، الشيخ راشد الغنوشي، في حوار تلفزيوني: "إنّ الحركة حريصة على تحييد المساجد وإبعادها عن التطرف والتجاذبات السياسية والصراعات الحزبية". مشيراً إلى أنّ المساجد يحب أن تبقى فضاءً عاماً لله وحده، معتبراً أنّ الجامع هو جامع يجمع بين ربوعه كل الناس، دون تفريق وفق الانتماءات الحزبية".

غير أن بعض هذه الدعوات وإنْ كانت تنطلق من معطيات موضوعية، فإنها تنطلق أيضاً من الحوار العلماني ـ الاسلامي ذاته وإن كان غير معلن.

لم ينته السجال بخصوص مفهوم تحييد المساجد، ولم يتحدد بشكل واضح من أي طرف كان، ويرفض الأئمة ورجال الدين أن يقتصر دور المساجد والخطب على المسائل المتعلقة بالعبادة فقط، لأن للمسجد دوراً في الحياة أيضاً وفي الإصلاح والدعوة إلى التنمية ونقد أحوال المجتمع، وهي كلها قضايا على تماس مع الموضوع السياسي، بل هي في قلبه النابض، في حين يرى الطرف المقابل أن حلقات المساجد وخطب الجمعة تستعيد مفاهيم لم تعد صالحة لحل مشاكل العصر.

وبذلك يتحول النقاش إلى فضاء آخر هو فضاء تجديد الخطاب الديني واستلهام أصوله ليكون ملائماً لروح العصر ومقتضيات المجتمعات الاسلامية الجديدة، وهو نقاش ينبغي أن يتم بعيداً عن الحسابات السياسية الآنية، لأن الحوار الفكري في مثل هذه القضايا يتطلّب هدنة سياسية وهدوءاً اجتماعياً وحالة من صفاء الساحة العامة لا تتيحه السياسة خصوصاً على مشارف انتخابات جديدة.

المساهمون