تحيا مصر.. لكن خارج الموازنة

12 اغسطس 2014
+ الخط -


يعبر الانقلاب العسكري في مصر عن نفسه بين حين وآخر، ليثبت على نفسه ما يحاول القائمون عليه، والمدبرون له، نفيه بكل الطرق. فهو، في دستوره وقوانينه وقراراته وإجراءاته، وخطابه السياسي والاجتماعي، وحتى الديني، انقلاب بامتياز. ولو لم يكن قائده فقط، قد أطاح رئيساً دستورياً منتخباً، ليشغل بعدها منصباً غير شاغر بقوة الدبابة. بالطبع، لم يكن خطابه الاقتصادي في منأى عن هذه الترجمة، ويظهر ذلك جلياً في فكرة صندوق "تحيا مصر" للتبرعات القسرية، والذي يجمع بين النقيضين معاً، التبرع والإكراه على هذا التبرع، على الرغم من أن التبرع لا يكون إلا طوعاً، ومن دون ذلك يكون سرقة بالإكراه، تحت تهديد السلاح أو القضاء. وهذه الفكرة عبر عنها قائد الانقلاب العسكري في أحد خطاباته المسجلة، بحاجته إلى أزيد من 500 مليار دولار، لتحقيق الانتعاش الاقتصادي، ويكون هذا المبلغ "خارج الموازنة العامة للدولة"، وهو، في ذلك الخطاب الغريب، قدم ملمحاً عن السياسة الاقتصادية القادمة في مصر، والتي ستكون "خارج الموازنة".

وقد بادر قائد الانقلاب بنفسه لافتتاح ذلك الصندوق العجيب، عندما أعلن أنه سيتبرع بنصف ثروته التي لا يعلم أحد عنها شيئاً بالطبع، ونصف راتبه الذي ضاعفه له سلفه المعين من قِبله، فور وقوع الانقلاب، قبل انتهاء مدة انتدابه في القصر الجمهوري بأيام، ما يعنىي، أنه بعد التبرع المزعوم، سيتقاضى الراتب نفسه الذي كان مرصوداً للرئيس في الدستور السابق. وعلى إثر تلك المبادرة التي تمت حياكتها إعلامياً، بذهاب قائد الانقلاب إلى أحد البنوك، ونصف ثروته في حقيبة سوداء مغلقة، اختلفت الآراء في عدّ ما كان فيها، وإن اتفقت على أن المشهد كان كوميدياً بامتياز. خصوصاً عندما سأله موظف البنك عن قيمة المبلغ، فكان جوابه له "عدهم إنت"، وكأنه كان يخشى الحسد. وعلى خلفية هذا المشهد، لحقه رجال أعمال من ذوي السيرة المشبوهة، ليعلنوا عن التبرع بالطريقة الإعلامية نفسها، وكان من نصيب آخرين حاولوا التمرد تهديد "هتدفعوا يعن هتدفعوا"، وعلى ضوئه، شرعت بعض أبواق الانقلاب الإعلامية في إعداد قوائم سوداء.

ويزداد أمر هذا التبرع طرافة، عندما نتذكر أن صاحب فكرة إنشائه، قفز على كرسي السلطة المغتصب، من دون برنامج انتخابي محدد، أو حتى غير محدد، بل جاء متعمداً تسفيه فكرة البرنامج الانتخابي في حد ذاتها، عندما رددت حملته الانتخابية المدارة بنظام الاتصال عن بعد، وردد هو كذلك، أنه لا يوجد لديه برنامج انتخابي، وزعم أنه مستدعى من الشعب. بالتالي، كيف تكون إدارة هذا الصندوق، في حال نجاحه، في جباية المبلغ الذي يحلم به قائد الانقلاب، وما الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها من خلاله. وحتى الآن، لا يدري أحد دستورية إنشاء مثل هذا الصندوق، الذي ولد بطلب من رأس السلطة الانقلابية نفسها، وليس من متطوعٍ يجامل السلطة، كما كان يحدث في الماضي، وكذلك لم يصدر قائد الانقلاب مرسوماً بقانون لإنشاء مثل هذا الصندوق، كما لا يدري أحد ما هي الجهة الرقابية الرسمية التي تستطيع الرقابة على مثل هذه الصناديق الخاصة، والتي كانت تشتكي منها الدولة المصرية قبل ثورة يناير، لغيابها عن الرقابة والمتابعة، وعادت إليها بعد الانقلاب في صورة هذا الصندوق الأكبر في تاريخ الصناديق الخاصة.

فهل بهذا ستحيا مصر بعد الانقلاب؟ ستحيا مصر خارج الموازنة. وتجاوز القائمون على الانقلاب العسكري وقائده معاني الدولة الحديثة التي حاولت ثورة يناير المجيدة تأسيس قواعدها، وكانت بها ستحيا مصر الجديدة، لولا الانقلاب الذي قام رافضاً تلك الحياة، ومن أجل الابقاء على هذه الحياة التي فيها يغيب القانون والمساءلة والمحاسبة وتضيع المسؤولية، ولم يسأل قائد الانقلاب نفسه، ولا معاونيه ولا نخبته، لماذا تحيا مصر هكذا، ولماذا لا تحيا مصر من التطبيق الجاد للحد الأقصى للأجور الذي أعلنت سبع هيئات حكومية كبرى الامتناع عن تطبيقه، على الرغم من أنهم المعنيون به، لأنهم المتجاوزون للحد الأقصى في الحقيقة، وقد أعلن أحد كبار القضاة في مصر أن من ينتظر تطبيق نظام الحد الاقصى على القضاة، عليه أن ينتظر ثورتهم العارمة.

ولماذا لا تحيا مصر من حصولها على الضرائب المستحقة لدى كبار رجال الأعمال، الرافضين دفع تلك الضرائب، وقد صرح أحدهم، وهو المدين بحوالي 14 مليار جنيه مستحقة لمصلحة الضرائب، وتفاوض في ظل حكم جماعة الإخوان المسلمين"على دفع سبعة مليارات، وبعد الانقلاب الذي كان أحد مموليه الكبار، رفض الالتزام بما تم الاتفاق عليه مع مصلحة الضرائب، متعللُا بأنه كان سيدفع وقت حكم "الإخوان"، حتى لا يظهروا أمام الناس بمظهر الحريص على الدولة ومصالحها، ولم ينس أن يذكر دوره في التحضير للانقلاب، والذي كلفه الكثير.

ولماذا لا تحيا مصر من الحصول على حقها الطبيعي من المشروعات الاقتصادية للقوات المسلحة، التي لا تعرف عنها الدولة شيئاً، وتمارس مهماتها الاقتصادية، وكأنها دولة مستقلة داخل الدولة، أو في قول أدق يناسب المرحلة "دولة فوق الدولة"، فالقوات المسلحة التي تسيطر على ما يزيد على 60 % من الاقتصاد الوطني لا يعرف عنها أحد شيئاً، والتي تعد من مسائل الأمن القومي، إذا ما حاول أحد الاقتراب منها أو السؤال عنها.

 

avata
avata
أحمد قاسم البياهوني (مصر)
أحمد قاسم البياهوني (مصر)