تحولات نحو الدولة المدنية في السودان

تحولات نحو الدولة المدنية في السودان

06 سبتمبر 2020
تمسك المتظاهرون بمطلب الدولة المدنية (أوزان كوزيه/فرانس برس)
+ الخط -

فاجأ رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك ورئيس "الحركة الشعبية لتحرير السودان" - جناح عبد العزيز الحلو، الخميس الماضي، الأوساط السياسية بالتوقيع على اتفاق مبادئ عامة، قبل الدخول في تفاوض أعمق بين الجانبين. أهم ما في اتفاق المبادئ الذي وُقّع في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، هو فتح الطريق في التفاوض أمام الاتفاق على دستور يقرّ مبدأ فصل الدين عن الدولة، وإذا تعذّر ذلك تمنح بعض المناطق مثل جبال النوبة جنوب غرب البلاد، والنيل الأزرق جنوب شرقها، حق تقرير المصير. ولم يسترسل الاتفاق في التفاصيل لطبيعته الأولية، لكنه أمّن على استمرار التفاوض بين الجانبين تحت رعاية وساطة جنوب السودان، وإقامة ورش عمل تسبق التفاوض لمناقشة القضايا الخلافية، ولا سيما في موضوع فصل الدين عن الدولة.
ومنذ أن دخلت "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بقيادة الحلو في محادثات مع الحكومة الانتقالية، أصرت دوماً على مبدأ العلمانية وفصل الدين عن الدولة كمدخل إلى التفاوض، وفي حال لم توافق الحكومة على ذلك، اقترحت الحركة الانتقال مباشرة للحديث عن منح حق تقرير المصير لمنطقتي جبال النوبة، والنيل الأزرق. ومع هذا الإصرار، لم تتقدم المفاوضات مع الحركة قيد أنملة، في وقت حققت فيه مفاوضات الحكومة مع حركات مسلحة أخرى قفزة، بالتوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق سلام شامل أخيراً. ويبدو أنها ومن خلال اتفاق زعيمها مع رئيس الوزراء قد نجحت "الحركة الشعبية لتحرير السودان" في تثبيت البندين؛ بحيث يكون النقاش مفتوحاً حول فصل الدين عن الدولة أو تقرير المصير.

سارعت تيارات وأحزاب سياسية إلى معارضة اتفاق حمدوك-الحلو

وبمجرد الإعلان عن اتفاق حمدوك-الحلو، سارعت تيارات وأحزاب سياسية إلى معارضته بحجة أنه ليس من مهام الفترة الانتقالية حسم قضية مثل العلاقة بين الدين والدولة، وطالبت بترك هذه المسألة إلى ما بعد الفترة الانتقالية الحالية، وقيام حكومة منتخبة، أو حسمها عبر دستور دائم يتم استفتاء الشعب عليه.
وفي بيان أول من أمس الجمعة، أوضح مجلس الوزراء أنّ كل مخرجات اللقاء تمّت بصورة أولية، وأن الاتفاق حدد القضايا الرئيسة التي يجب وضعها على طاولات التفاوض. كما أشار إلى أنّ الجانبين اتفقا على أن يمر ذلك الاتفاق على القنوات والأجهزة المعنية لدى الجانبين.
ولم تكن قضية العلاقة بين الدين والدولة غائبة كذلك عن اتفاق السلام الذي وُقّع الأسبوع الماضي بين الحكومة الانتقالية وحركات مسلحة ومدنية تتحالف تحت مسمى "الجبهة الثورية". إذ نصّ الاتفاق على الفصل الكامل بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة، ووقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان والمعتقدات، على أن يضمّن ذلك في دستور البلاد وقوانينها.
وللعلاقة بين الدين والدولة تاريخ معقد في السودان. فمع بدايات الاستقلال في يناير/كانون الثاني 1956، برزت دعوات لإعداد دستور وقوانين إسلامية، كبديل عن الدستور والقوانين الموروثة من المستعمر البريطاني. وقد تصاعدت حدة تلك الدعوات في ستينيات القرن الماضي، خصوصاً مع بروز التيارات الإسلامية.
في العام 1983، وبعد تقلبه بين المدارس الفكرية المختلفة أثناء فترة حكمه الممتدة من 1969 إلى 1985، أعلن الرئيس جعفر النميري تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد، ما عقّد مشكلة جنوب السودان المتمرّد أصلاً على الدولة السودانية. وبعد سقوط نظام النميري عام 1985، ترددت حكومة الصادق المهدي المنتخبة (1986-1989) في إلغاء القوانين الإسلامية، حتى جاء انقلاب الرئيس المخلوع عمر البشير المدعوم من حزب "الجبهة الإسلامية" بقيادة حسن الترابي في العام 1989. وبعد عامين من سيطرته على الحكم، أعلن البشير تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد، ما أثار قلق الأقليات غير المسلمة، وأعطى المشروعية لتمدد التمرد في جنوب السودان.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

في العام 2005، وقّع نظام البشير على اتفاق مع متمردي الجنوب (الحركة الشعبية لتحرير السودان)، وأعدّ دستوراً جديداً منح جنوب السودان حقّ الاستثناء من تطبيق أحكام الشريعة. ثمّ انفصل الجنوب في العام 2011، واستمر العمل بدستور عام 2005، لكن جزءاً من "الحركة الشعبية"، المكوّنة من أبناء مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق حيث توجد أقليات مسيحية ولا دينية، آثرت العودة للتمرّد مرة أخرى لأسباب مختلفة، من بينها الاعتراض على تطبيق قوانين ذات طابع ديني على غير المسلمين، لتعود قضية الدين والدولة من جديد إلى واجهة الأحداث.
بعد الإطاحة بنظام البشير وتشكيل الحكومة الحالية، حاولت الأخيرة إجراء معالجات جزئية في قضية فصل الدين عن الدولة، عبر فرض تعديلات واسعة على القوانيين، شملت إلغاء حدّ الردة، وإعفاء غير المسلمين من عقوبة شرب الخمر، وإلغاء قانون النظام العام، كما خففت التعديلات عقوبة الجلد. وأكدت الحكومة أنّ كل التعديلات مقصود بها ضمان الحريات العامة وسيادة حكم القانون وعدم التمييز بين المواطنين.

كل المؤشرات تشير إلى تحولات عميقة في علاقة الدين والدولة

وفي الوقت ذاته، أكدت الحكومة أنها لا تستطيع المضي أكثر من ذلك بإلغاء قوانين أخرى ذات طابع ديني، بحجة أنّ ذلك ليس من اختصاصها ومتروك لتشاور سياسي أوسع واتفاق على دستور جديد.
وتتحدث الوثيقة الدستورية الموقعة العام الماضي، وكذلك الاتفاق بين الحكومة و"الجبهة الثورية"، عن قيام مؤتمر دستوري في فترة أقصاها 6 أشهر ليناقش بالتفصيل قضايا الهوية وإدارة التنوع والمواطنة وعلاقة الدين بالدولة، وإصلاح القطاع الأمني وقضايا الحكم والسلطة وغيرها.
وعطفاً على الاتفاقيات الأخيرة بين "الجبهة الثورية" والحكومة، والاتفاق المتوقع مع حركة عبد العزيز الحلو، فإنّ كل المؤشرات تشير إلى تحولات عميقة في علاقة الدين والدولة، وفي مجال الحريات العامة وعدم التمييز بين المواطنين، والتمثيل العادل لكل السودانيين. وحتى قضية النوع لم تغفل عنها الاتفاقيات، إذ نصت على أهمية تمثيل المرأة في جميع مستويات السلطة وبنسبة لا تقل عن 40 في المائة. كما نصت على التقسيم العادل للسلطة والثروة والتمييز الإيجابي لصالح المناطق المتأثرة بالحروب والنزاعات والمناطق الأقل نمواً، ومعالجة قضايا التهميش والمجموعات المستضعفة.
ونصت الاتفاقيات على تحقيق العدالة الانتقالية، خصوصاً في إقليم دارفور الذي قُتل فيه نحو 250 ألف شخص خلال الحرب الأهلية التي اندلعت في الإقليم في العام 2003، وأقرّت مثول المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية أمامها.
ومهما كانت قيمة الاتفاقيات الموقعة أو التي ستوقع، فيبقى نجاحها وتحقيقها لأهدافها مرهون بتخطي جملة من العقبات. فحسم العلاقة بين الدين والدولة مرهون بتجاوز التيارات الدينية وقدرتها على استدرار التعاطف الشعبي الديني، وإن كانت تجربة 30 عاماً من حكم البشير تحت غطاء الدين، قلّلت الحماسة الشعبية إلى درجة كبيرة تجاه التوجهات الدينية في السياسة.

حسم العلاقة بين الدين والدولة رهن تجاوز التيارات الدينية

كذلك، تقف عقبات أخرى في طريق تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، كمثال ضعف الموارد المالية الذي قد يقف حائلاً أمام الحكومة في دفع استحقاقات السلام الضخمة. كما يشكل حاجز عدم التماسك الداخلي؛ سواء لدى الحركات الموقعة على الاتفاق أو لدى الحكومة نفسها المقسومة بين عسكر ومدنيين عقبة أيضاً، هذا غير الخشية من وقوع انقلاب عسكري يقطع الطريق أمام السلام وعملية التحول الديمقراطي في البلاد، وهو أمر ليس مستبعد تماماً بتقدير كثير من المراقبين.
ومن العقبات كذلك مدى دعم المجتمع الدولي للفترة الانتقالية في السودان، والاشتراطات التي يضعها المانحون. فمثلاً، تبدو أميركا غير متحمسة لإزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وتربط أي دعم مالي مؤثر للسودان، بتطبيع الخرطوم علاقتها مع تل أبيب، الأمر الذي أكدت حكومة حمدوك خلال زيارة وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو قبل فترة أنها غير مفوضة به. أمّا دول الخليج المنقسمة إلى محورين، فتشترط إملاء أجندتها وضمان مصالحها في السودان قبل كل شيء، خصوصاً المحور الإماراتي السعودي الذي أوقف دفع منحة أعلن عنها بعد سقوط نظام البشير وتبلغ 3 مليارات دولار، عقب فشله بنسبة ما في تجيير الثورة السودانية لصالحه.
وأخيراً، فإنّ التخوف الأكبر من أن تنتهي تلك الاتفاقيات أو حتى واحدة منها، بما انتهت إليه اتفاقية السلام مع جنوب السودان في عام 2005، بانفصال الجنوب. ولا ينبع ذلك التخوف من عبث، فإعلان المبادئ مع "الحركة الشعبية لتحرير السودان" إذا ما تمت إجازته، يعطي الحق لمن يريد من أبناء السودان لاحقاً تقرير مصيره، ما يعني أن فرضية تقسيم السودان لدويلات أضحت قائمة ولو بنسبة أقل.

المساهمون