تحرير السوق... فخ الرأسمالية

تحرير السوق... فخ الرأسمالية

13 مايو 2020
+ الخط -
قال لورنس سامرز، أحد أشهر اقتصاديي الولايات المتحدة: "إننا نشهد فزعاً من اقتصاد السوق المحررة من القيود ما كان له وجود قط، لا قبل انهيار الجدار ولا في الزمن السابق على انهياره".

لقد ولى من غير رجعة الزمن الذي تسيطر فيه صناديق الاقتراع وباتت الدولة مجرد شرطي مرور يسهل عمليات الذهاب والإياب التي تقوم بها المنتجات ورؤوس الأموال، وصار المقود في يد حفنة من المستثمرين، سواء من الداخل أو من الخارج، وهذا مرتبط بدمى ارتباط الدولة بالنظام الرأسمالي، فكلما تعمقت الدولة وانغمست فيه سيطر عليها الرأسمال الأجنبي وتراجع المستثمر المحلي، وهذا نتيجة حتمية للصراع من أجل البقاء الذي تفرضه مكانزمات الاقتصاد الحر.

لا أحد بإمكانه أن ينكر ما وصلنا إليه بفضل الاقتصاد الحر، ففي جانب أصبح العالم قرية واحدة وبات الطب متطوراً والثقافات متداخلة والشعوب تلتقي أكثر من ذي قبل وتنفتح على بعضها البعض، ولكن هذا وجه واحد للعملة، فالوجه الآخر يقول إن كون العالم قرية واحدة يعني عولمة كل شيء بما فيه الأزمة والحروب، وبالتالي عولمة الموت وكورونا مثال صارخ على هذه الأخيرة.

ولا أحد ينكر كون الميديا ووسائل الاتصال سهلت حياة الناس واستطاعت توصيل المعرفة إلى البيت ووفرت ظروفاً أفضل للتعليم، لكنها في جانب آخر فككت المجتمعات ونمط الثقافات وألغت الروابط بين الناس وأدت إلى بروز أنماط شاذة من التفكير، زد على ذلك كمية العنف التي حملها تيار الميديا وتسببها في انعزال الأشخاص، ففي اليابان وحدها يعيش أكثر من مليون شخص في عزلة تامة وهي ظاهرة جديدة أطلق عليها "هيكيكوموري".


إن التحول الذي يطرأ على الاقتصاد يؤثر على المجتمع إما بالسلب وإما بالإيجاب، وغالبا ما يتجرع السواد الأعظم من الشعب سم الأزمات وانكماش الأسواق، فتسمع كلاماً يدور في السوق من قبيل "أي أزمة نحن لا نشعر؟ إننا في أزمة دائما".

وهذا صحيح لأن الذين يشعرون بها هم الذي يلعقون عسل تحرير الأسواق فيجمعون الأموال ويكدسونها، هم وحدهم من يستفيد من السوق المحرر ولكنهم في الأزمة يستنجدون بعامة الشعب ويرسلون سياسييهم ليلقوا على الشعب خطابات مؤثرة تدعوهم للتقشف أكثر والتقليل من الجشع، فالدولة تمر بمرحلة صعبة، ويسخر الشعب من هذه الدعاوى لأنه لو تقشف أكثر لعد من الموتى لا من الأحياء، فعن أي تقشف يتحدث هؤلاء؟ هكذا يقول متهكماً.

وقد يعتقد المرء أن مثل هذه الدعاوى إنما يختص بها مواطنو العالم الثالث الحاقدون على كل ناجح، هكذا يسلي البعض نفسه، عوض أن يبحث عن كيفية اكتساب هؤلاء للثروة يلوم أولئك الذين يتذمرون ويرمي بأشنع الأوصاف، وخاصة إذا ما كان الذي ينتقد هو ولي نعمته، فآنذاك يتحول المدافع إلى عالم اجتماع يشخص مرض المجتمع وإلى عالم اقتصاد يبين سبب ضعف دخل المنتقدين وكذلك إلى مدرب للتنمية البشرية، فينصح الناس بالتنفس بعمق والشعور بتدفق القوة وجريان حب المغامرة في الدم وهذا كفيل بأن يجعلهم أغنياء.

ولكن الحقيقة تقول إن العالم بأسره ومنذ وقت طويل أدرك حقيقة الخازوق الذي وضعته عليه الرأسمالية، فالهوة تزداد والكل يشهد كيف ترفع الرأسمالية القلة وتحط بالأغلبية إلى الدرك الأسفل، وفي لحظات تهوي الأسهم ومعها يسرح العمال ويفقد الناس منازلهم وتحجز البنوك على الممتلكات وتتصاعد حدة العنف المنزلي وتتفكك الأسر، في رمشة عين.

الغريب والعجيب أن هذا النظام الذي يفتخر به البعض ويحب أن يدافع عنه بكل ما يملك من قوة، يهوي في رمشة عين، تخيل أن الشركات يمكنها أن تفلس في دقائق معدودة والمصانع تغلق أبوابها بين ليلة وضحاها والدول تنتقل من الفائض إلى العجز، أهذا نظام اقتصادي يعول عليه مليارات البشر أم قصر رمل يلهو به الأطفال على شاطئ البحر؟

لقد راهنت الفلسفة المادية على العلم ليخرج الإنسان من الطواف حول الإله الذي صنعه بسبب ضعفه وقلة حيلته - ناقل الكفر ليس بكافر - إلى تقديس الإنسان الكامل "السوبرمان" بحسب تعبير ماركس ونيتشه.

بل وآمن أكثر من عالم وفيلسوف أن القرن العشرين سيكون قرن اختفاء الإله. ولكن الذي حدث العكس، ففي السنة التي توفي فيها نيتشه (1900) كان في أفريقيا ثمانية ملايين مسيحي، وانظر كم أصبح عددهم اليوم، وأما عن الإسلام فآخر الدراسات، وهي موجودة تحت عنوان "هل سيختفي الدين قريبا؟ أم أن للإسلام رأياً آخر" تتحدث عن نمو بنسبة 70%، وبذلك سيصبح المسلمون 3 مليارات في عام 2060.

وراهنت دول العالم على الرأسمالية وتحرير السوق، وخاصة دول العالم الثالث، بينما لم تكن تعلم ما ينتظرها جراء ذلك. في سنة 2007 صدر تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية المتعلق بالتنمية البشرية أقر بأن 45 بلداً أصبحت أفقر اليوم من سنة 1991، ومعدل العمر تراجع في 34 بلداً وتزايدت المجاعة في 12 بلداً!

فضلاً عن المناطق التي تشهد اضطرابات سياسة واجتماعية بسبب نهج الدول لتوصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ففي لبنان مثلاً قبل مدة صرح رئيس الحكومة أن لبنان باستطاعته تجاوز المحنة إذا ما أدخل إصلاحات على الاقتصاد؛ الإصلاحات يقصد بها ما تفرضه المؤسسات المالية، وكأنه لم يقرأ أبداً عن الاقتصاد ولا سمع بما حدث في دول كالأرجنتين وبوليفيا وغيرهما، وهكذا ظلت الإصلاحات في نظره وها نحن اليوم نسمع عما يشهد البلد الشقيق لبنان من انهيار لأسواق المال وكساد لم تشهد البلاد له مثيلاً.

وليس لبنان وحده من يعيش هذه الحالة بل إن دولاً أغنى منه وأثقل منه وزناً في المنطقة تواجه هذه الحالة، فالسعودية مثلا تعيش الأمرَّين بعد أن جفف كورونا منابع المال ولم يترك لها من مصدر سوى ما كان مخزناً، وزاد من أزمتها الضغط الذي تمارسه إدارة ترامب عليها والتي تطالبها بضخ الدولارات في حساب الإدارة الأميركية كمساعدة منها لإنقاذ الولايات المتحدة - التي حمتها وتحميها - من الانهيار، خاصة أن ترامب يعرف أن عدد العاطلين وصل إلى العشرين مليون عاطل في بلده، والاقتصاد الأميركي يغرق والديون تتضاعف وكورونا يحكم قبضته أكثر فأكثر على بلاد العام سام. وسيجد الأميركيون أنفسهم على غرار كل العالم عبيداً لدى الأسر الغنية المسيطرة على الشركات العابرة للقارات والمؤسسات المانحة للديون.

كلما غرقت الدول في الاضطرابات والفوضى احتاجت إلى المال، وكلما استمرت هذه الحاجة اقتربت الدول من الفخ إلى أن تسقط فيه، وأقصد الديون، فحين تقترض الدول من المؤسسات المالية تصبح ضمنياً تحت رحمتها ورحمة الشركات العبر للقارات، وهكذا وبسبب عدم قدرة هذه الدول على سداد ديونها - وفوائد الديون - تستبيح الشركات ثروات هذه الدول وبما في ذلك الثروة البشرية، فيتنقل المواطن من العمل من أجل وطنه إلى العمل من أجل الشركات الأجنبية، ومن الحرية إلى العبودية من دون أن يدرك في البداية الأمر، حتى إذا تأزمت الأوضاع وتبين بملموس عجزه عن توفير أبسط شروط العيش بات على يقين تام بأنه داخل مصيدة لا يرجى منها خروج، وحين يدرك هذا يكون كل شيء قد تم على أكمل وجه بالنسبة إلى المؤسسات المالية، فتحت هول الصدمة يختار المواطن أن تستباح حريته وكرامته لقاء إنقاذ اقتصاده دولته، ولما يستوعب العملية الحتمية، تعطى الإشارة لظهور "باتمان" محرر الناس من الفوضى، فترسو الشركات بسفنها وتبدأ بعملية النهب المنظم من جانب، وعملية إنقاذ العبيد من موت من جانب آخر، من الموت لا من العبودية.

لم تكن الرأسمالية البروتستانتية منذ نشأتها أول مرة سوى نقل للناس من "العبودية الفوضوية" إلى "العبودية العلمية"، لهذا قال ماركس ذات مرة "ليست الوظيفة سوى نوع ملطف من العبودية". وما نقوله عن الوظيفة يصدق على غيرها. ولم يكن تحرير السوق سوى فخ نصبته الرأسمالية.

وحين نمعن في وصف غير الأغنياء بالعبيد، فلا يعني هذا أن البرجوازي في منأى منها، فحتى ولو كان يبدو لك حراً يستمتع بالحياة ويرغد بالعيش، فهو في قرارة نفسه يدرك كنهه ويعلم أن ماله سيده، وسيد ماله ليس هو بل ولي نعمته من برجوازيي الخارج الذي يتركونه يسرق ويبطش بأهل وطنه، وهم راضون عنه ما دام طيعاً، فلا يغررك تقلبه في البلاد.