تحرير "الرأي" من القطيع

تحرير "الرأي" من القطيع

29 سبتمبر 2018

تحولنا أفرادا في قالب مجتمعي لا يشبهنا (Getty)

+ الخط -
أصبح "الرأي الخاص"، في أحيان كثيرة، رأياً مستنسخاً بين الأفراد في مجتمع يتخذ دائماً شكل القطيع، لا شكل التنّوع الفردي فيه. هذا ما تكرّس في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد بروز وسائل التواصل الاجتماعي. وبات همّ أي شخص هو الخروج برأيٍ بشأن مواضيع محدّدة، يكون شعبياً ومتناسقاً مع رأي أشخاص "أقوياء"، مصنّفين ضمن "القادة" في مجتمعاتهم. لا يريد كثيرون الخروج من عباءة القطيع الجديد، ولو باسم الحرية. القطعان قطعان، في عملية الاقتداء بشخصٍ واحد، لإبراز من يصفونه "رأياً شخصياً".
الأمثلة كثيرة، من مباريات رياضية إلى ملفات سياسية إلى برامج تلفزيونية إلى أنواع موسيقى وغيرها الكثير. التقليد المتناسخ أقرب إلى عبودية متنقلة، لا خروجاً منها. يحصل أن يقول أحدهم إن "المباراة الأخيرة لبرشلونة كانت سيئة"، وربما قد تكون كذلك أو لا، لكن سرعان ما يجد أفواجاً تتبعه، تؤيد كلامه، فقط لأنه هو من قاله، لا لأنهم شاهدوا المباراة بحدّ ذاتها. هؤلاء يخشون الخروج من دائرة القطيع، خشيةً من عزلة اجتماعية ـ فكرية ما، بحسب رأيهم. الخوف يدفعهم إلى اعتناق أي رأي، فقط للانخراط في هذا المجتمع، وتحولهم إلى شخص "cool". وهذا الأمر من أكثر السلبيات التي ضربت وتضرب مجتمعاتنا العربية، ولا تدفعها إلى التطور واللحاق بالغرب. لا يسمح هذا النوع من الانخراط في قطيع للعقل بالبروز، بقدر ما يسمح لفردانية زائفة بالخروج، فردانية تلبّس شخصية لا تشبهنا، فقط لنشبه المجتمع كي لا يرفضنا.
هذه ليست حرية، ولو أن اسمها "حرية". هذه حرية في نطاق العبودية، نابعة من خوفنا من إعطاء رأينا الحقيقي، إن وُجد، فنستعيض عنه بتحولنا إلى تابعين باسم الحرية. هذا واقع أفرزته مجتمعات التقدم التقني في السنوات العشر الأخيرة، ولم يعد مقتصراً على الأحاديث المجتمعية. ومع تحولنا أفرادا في قالب مجتمعي لا يشبهنا، لا يعود الخروج اللاحق آمناً، بل يصبح أكثر قسوةً على شخصياتنا، وعلى نموّنا الفردي بشكل عام. ومع خشيتنا من الخروج، نمسي أرقاماً في عدّاد فئة ما، ولا نعود قادرين على التحكّم بقدرتنا على إبداء رأينا. لحظة، أين شاهدنا مثل هذا الأمر؟ آه، في الأحزاب والأنظمة الشرق أوسطية. التاريخ لا يخرج من ذاته، ولا يحاول حتى في العصر الحالي، على الرغم من كل الدفع باتجاه ذلك.
"الرأي الخاص" هو رأيك أنت غير المتأثر بأي رأي آخر، ولا يعني بناء المتاريس وإطلاق الرصاص على رأيٍ آخر. هو رأيك فقط، تقوله وتناقشه وتتمسّك به إن لم تقتنع برأي آخر بعد المناقشات، لكن لا أحد قادر على تطويعك. لا يُمكن باسم "الرأي الخاص" أن تقبل خضوعك في مجتمع قد لا يشبهك، لكنك تخشى الخروج منه، لأسبابٍ مرتبطةٍ بحاجتك إلى مجتمع، تحت شعار "الإنسان كائن اجتماعي".
تعدّد الآراء، لا استنساخها، هو الأقدر على إعطاء منطق المصارحة حقها، والأنسب للخروج من دائرة التكرار والاستنساخ. نادراً ما أجد رأياً مدعوماً بحججٍ، بل لأن "فلان قاله، فبات لزاماً عليّ قبوله" (لا أدري باسم أي منطق). أكثرية الآراء المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي متكرّرة ومستنسخة، ولا يعني أنها صحيحة. ربما لا يمكن التغلب على بند من بنود علم الاجتماع عن تصرّف الجماهير وتأثرها، لأسبابٍ عدة في دواخلها، ولكن يمكن التوقف لحظة وطرح الأسئلة التي لا نجرؤ على طرحها "خوفاً" من الخروج من طاعة المجتمع، وذبحنا باسم العزل.
يؤدي الخوف من إبداء الرأي الحقيقي إلى مسارٍ أكثر قسوة من واقعنا الحالي، فنستنسخ عبودية بدل تثبيت الحرية، ونورث الأجيال التي لم تولد بعد مزيدا من الإشكالات الفكرية الدائرة في فلك الخوف من الحقيقة. لم تكن الحرية ملكة الخوف أبداً، والآراء كذلك.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".