تجديدُ مختبرات الربيع العربي

تجديدُ مختبرات الربيع العربي

11 ابريل 2019
+ الخط -
تُعيد الأحداث المتلاحقة، في الجزائر والسودان وليبيا، إلى الواجهة ما طرحته ثورات الربيع العربي من قضايا وأسئلة، باتت عنوانا بارزا لمخاض انتقالي عسير، تعيشه المجتمعات العربية على أكثر من صعيد.
ليس الحراك الجزائري مجرد انتفاضة شعبية ضد الاستبداد والفساد وتردي الأوضاع المعيشية والاجتماعية، بقدر ما هو، أيضا، تعبيرٌ عن رفض أدوار محور الثورة المضادة في الالتفاف على تطلع شعوب المنطقة نحو الديمقراطية والحرية والكرامة. وبدا واضحا، منذ البداية، أن الجزائريين فهموا جيدا معادلة الربيع العربي المركبة، واستخلصوا العبرة مما حدث في تونس ومصر واليمن وسورية وليبيا.
تشكل التجربة التونسية نموذجا دالا بالنسبة للحراك الشعبي في الجزائر، سيما فيما له صلة ببناء التوافقات التي تعزّز فرص التحول الديمقراطي، والرهانِ على السلمية، ودورِ الطبقة الوسطى والمجتمع المدني والشباب والمرأة في تغذية مسارات هذا التحول. وفي وسع الجزائر أن تستضيء بهذه التجربة، وتستفيد مما راكمته، حتى الآن، من إنجازاتٍ لا يستهان بها، خصوصا أنها، أي الجزائر، لايزال أمامها الكثير، لتنجز تحولا ديمقراطيا سلسا، تتجاوز من خلاله الإرث النفسي الثقيل الذي خلفه إخفاق محاولتها المعلومة في بداية التسعينات.
في الصدد نفسه، تحظى الحالة المصرية، بكل دراميتها، بحضور طاغٍ في سيرورة الحراك الجزائري، سيما فيما يتعلق بتعاطي المحتجين مع أداء العسكرتارية الجزائرية، باستعادتهم الدالة شريط أحداث الثورة المصرية قبل إطاحة حسني مبارك في 11 فبراير/ شباط 2011 وبعدها، وهو قياسٌ ضاجٌّ بالعبر والدروس التي ينبغي استخلاصها والاستفادة منها، فقد أثبتت الوقائع أن تنحّي مبارك (أو بالأحرى تنحيته) جاء بعد أن تخلى عنه الجيش الذي أيقن أنه صار ورقة محروقة في الداخل والخارج. يحدث الشيء نفسه في الجزائر تقريبا، وإنْ بإخراج مختلف، فمع انطلاق الحراك في 22 فبراير/ شباط الماضي، ظل الجيش منحازا إلى بوتفليقة والقوى الاجتماعية والسياسية المصطفة حوله، وهو الانحياز الذي عكسته التصريحات السلبية لقائد الأركان أحمد قايد صالح بشأن الحراك في بداية الأزمة، لكن إصرار الجزائريين على رحيل النظام برمته أربك حسابات الجيش، وجعله يعيد قراءة الأحداث، وهو ما ظهر في نعت صالح هذه القوى بالعصابة، وإعلانه تأييد مطالب الحراك بدعوته إلى تفعيل المقتضيات الدستورية التي تحيل على سيادة الشعب.
يعكس هذا التحول في موقف الجيش الجزائري، من ناحية، التصدّع الحاصل في بنية النظام في ظل بحثه عن أكباش فداء من داخله للتضحية بها على مذبح الحراك. ومن ناحية أخرى، يعكس حرص هذا الجيش على أن يكون فاعلا أساسيا فيما سيأتي من أحداث، بتأكيده على التحامه بالشعب.
وبموازاة ذلك، تحيل الحالة الجزائرية على أزمة مؤسسات الوساطة والـتأطير، ودورها في انتكاسة الثورات العربية. وعلى غرار ما حدث في أقطار أخرى، كشفت هذه الحالة الأزمة العميقة للطبقة السياسية الجزائرية التي وجدت نفسها أمام لحظةٍ مفصليةٍ وتاريخيةٍ لم تكن تتوقعها، ما خلط أوراقها وأظهر عجزها عن مجاراة الأحداث، فما بالك بالتأثير فيها وتدبير منعرجاتها.
من ناحية أخرى، كان لافتـا رفعُ المتظاهرين في الجزائر شعاراتٍ تندد باستقواء النظام بالخارج. ولم يكن ذلك تعبيرا، فقط، عن استنكارهم جولة كان قد قام بها، قبل فترة، وزير الخارجية السابق، رمطان العمامرة، لبعض العواصم العالمية، بغاية حشد التأييد الدولي لهذا النظام، بل كان، أيضا، بيان إدانة دالاًّ لدور محو الثورة المضادة في إجهاض الثورات العربية، والانحراف بها عن مساراتها السلمية والديمقراطية. ويعكس هذا الرفض وعيا شعبيا متقدما بمخاطر تدويل الأزمة الجزائرية على المدى البعيد، في استحضارٍ لما حدث ويحدث في سورية واليمن وليبيا. ولا مجازفة في الزعم أن تزامن هجوم قوات خليفة حفتر على طرابلس مع الحراك الجزائري يكشف بوضوح دور المحور الإماراتي السعودي المصري في دعم مشاريع الاستبداد الجديد، والالتفاف على تطلعات الشعوب، وتعطيل مسارات التحول الديمقراطي، ونشر الفوضى وعدم الاستقرار.
يُقدّم الحراك الشعبي في الجزائر والسودان فرصة تاريخية لتجديد مختبرات الربيع العربي، واستدعاء قضاياه وأسئلته الحارقة التي طُرحت قبل ثمانية أعوام، ولكن ضمن استراتيجيةٍ مغايرةٍ تنبني على فهم أكثر عمقا لديناميات الاحتجاج الشعبي، وسياقاته الداخلية والإقليمية والدولية.