تتويج الخيبة

تتويج الخيبة

30 نوفمبر 2016
+ الخط -

أعترف أنّني فشلت. فأمام كل الدعوات الواقعية والافتراضية على وسائل التواصل الاجتماعي، لعدم الاكتراث إلى انتخاب رئيس تكتل التغيير والإصلاح النائب ميشال عون، رئيساً للجمهورية، لم أتمالك نفسي عن الخضوع لحالة اليأس التي أُضيفت إلى الإحباط المسبق من الوضع في بلدي لبنان. 

صحيح أنّ لبنان لا يشهد عنفاً بمعنى العنف الدموي والمسلح الذي تشهده بلدان الأزمات في المنطقة، وأولها جارتنا سورية، إلا أنّ واقعه يمثل موتاً بطيئاً، لعلّه يضني ويتعب، وينخر الروح ويجعل المعاناة لا تحتمل...

فالسلاح موجود ويُرفع متى شاء حامله، وليس أمام الناس العاديين أمثالنا سوى أن يشاهدوا اللعبة، ويراقبوا التغنّي بديمقراطية مزيفة. لا أفضّل المقارنات ولا أحبّذها، فلكل بلد معاناته ومأساته، ويبدو من الظلم الحكم على أمر لا نعيش تفاصيله.

ليست القضية شخص عون، مع أنه قد يكون أحد أسبابها بلا شك. لكن في لبنان، ومع تفاصيله العصية على الفهم، الممزوجة برائحة النفايات وكهربائه المقطوعة ومياهه الملوثة نستطيع الصراخ ولو عبر هذه السطور أثناء حكمنا على ما نشهده وما يتم فرضه علينا من حفل تتويج فخامة الرئيس "القوي" والذي "صنع في لبنان" كما يكذب علينا.

حفل التتويج هذا يمثّل صورة واضحة عن مدى وقاحة السياسيين، وعدم اكتراثهم لمسؤولياتهم، بل حتى لوعودهم التي نخروا آذاننا بها على مدى سنتين أو أكثر من الفراغ الرئاسي.

نعم، اليوم نيأس أكثر من أي وقت مضى عندما نُفاجأ، كما في كل مرة، كيف تُمحى الخلافات التي أججّت أناساً في الشوارع ونمّت الأحقاد بين منطقة وأخرى، تحت ذرائع طائفية لمّا شاء من وراءها، ويحضر النواب بكامل عددهم، حتى النواب الذين هجروا البلد تحت حجج واهية، بعدما تمّت الصفقة ورُفعت أقلامها.

اليوم نستسلم لليأس أمام حقيقة وصول أطراف إلى رأس السلطة بعدما سرقت تمثيل الناس بحجة الأمن والوجود والحفاظ على الهوية ورفعت عنوان حماية حقوقهم، حتى وإن داستها عندما مدّدت لنفسها بمجلس النواب دون اكتراث لإجراءات التصويت والاقتراع، بل حتى أنّها لم تعد تأت على ذكر شرعية المجلس، بمجرد التوصل لاتفاقٍ وافق أهواءها.

ليس في الأفق ما يبشّر، في واقع حمل سياسيوه شعارات بناء الدولة والركون إلى القانون ثم تناسوها لما عقدوا الصفقات للوصول إلى السلطة، ولو حاولوا تجميل ذلك بشعارات التضحية.

وليزداد المشهد سوريالية، كان انتشار اللوحات واللافتات وصور المرشح الرئاسي يلتقط صور عهده القادم مبتسماً في مشهد تفرك عينيك قبل تصديقه، حيث يبدو صاحب الكرسي الثمانيني واثقاً، منتشياً بسلطته، محتفياً بموقعه، كطفل ساذج مسلوب البراءة في أول أيام المدرسة.

كان أجدر بمن يهلل للرئيس الجديد واتفاق الوحدة الهزيل، كما الشعارات المزيفة الأخرى، لو أنه يقنعنا... يجيبنا على أسئلتنا التي لا تنتهي، عن صدقية المشهد ومعقوليته، عن حقيقة ما يجري، فكل ما حدث اليوم كان مشهداً يصعب فهمه، لكنّه وفق نظرية الواقع كان حفلة مكتملة التحضيرات.

عطلة رسمية للتلاميذ، الذين زرع في ذهنهم منذ الصغر أنّ الاحتفاء بتنصيب فخامة الرئيس، أهم من بضع ساعات علم. مواكب سيارة، في الطرق المغلقة، ترفع أعلام هذا الحزب وذاك، وصور الزعيم بل الزعماء، مع شعارات تسبح باسمه، وتناكف خصومه، وأخرى تصفه بكل غلاظة بأنه "أب الكل" وتتغنى بتاريخه.

وفد سفراء من دول تتنافس في إجرامها، وتنصّب نفسها قوى عظمى تتحكّم بمصائر الناس وتستغل مآسيهم لمصالحها. فرقة إعلاميين ينقلون الحدث وفق التوليفة الجديدة من الاحتفاء بالرئيس ولو تحت حجج متعددة مترافقة مع تحليلات من كل حدب وصوب عن انتصار هذا المحور لا بل حشر ذاك المحور خصومه في الزاوية.

جوقة فنانين يطبّلون ويزمرون للجنرال، ويمدحون الأستاذ، ويتغزلون بالشيخ، ويشيدون بالبيك، وفوق ذلك يحضرون حتى إلى مجلس الشعب (النواب)، دون أي صفة وبكل صفاقة. 

حاولت تصديق مشهد الجموع المنتشرة في الشوارع تحتفل، وتنمق كلاماً مصفوفاً أمام الكاميرات، ففضلت الخضوع لأحلام الخيال. حلم ألا أسأل كل ثلاث ساعات عن كهرباء بيتنا، وأحمل هم توفير مياهه. حلم ألا أفرّغ شتائم أرددها وأخرى لا أعلمها كلمّا تصفحت الإنترنت، وألا نتعثر على الطرقات ونعاني غرقها كل شتاء.

حلم أن أعمل وأتعلم وأن أعالج عندما أمرض وألا أفكّر بالهجرة كل يوم، وألا يقضي والدي لحظات حياتهم المتبقية بعيداً عن أولادهم المغتربين. حلم أن نختار الأكفأ في مجتمع يحترم العدالة ويخضع للقانون ولا يقوم على المحاصصة الطائفية والإقطاعية والسياسية العائلية.

لكنّ بلدنا الصغير يبدو أنه سيبقى كبيراً على أحلامنا التي مع ذلك سنخلص لها ما حيينا. ونحن سنظل نُفاجأ في كل مرة لا يكترث فيها السياسيون ليومياتنا فيما يتفقون على حسابنا. ربما لن نجرّ في واقعنا هذا سوى الخيبة تلو الخيبة...

ومع أنّ انتخاب الرئيس اليوم ليس أولى الخيبات ولن يكون آخرها، إلا أنه أتى تتويجاً لإحدى محطاتها... والتي لم أتمالك نفسي إلا أن أكترث لها..