تاكو بوكو.. تجريب الأحزان الكاملة

تاكو بوكو.. تجريب الأحزان الكاملة

05 يوليو 2016
تمثال للشاعر في طوكيو
+ الخط -

"لامع وحاد كنصل السيف، قاس جداً في وضوح عبارته"، لعل هذه الجملة التي جاءت في مقدمة الكتاب تلخص عمل الشاعر الياباني إيشيكاوا تاكو بوكو (1886-1912) الذي صدرت أعماله الشعرية الكاملة حديثاً عن "دار التكوين" في دمشق بترجمة الشاعر السوري محمد عضيمة والمستعرب الياباني كوتا كاريا. يقدّم العمل نافذة تعريفية للقارئ العربي على حياة تاكو بوكو وأبرز المنعطفات التاريخية التي عصفت بتجربته، إضافة إلى ترجمة المجموعات الشعرية التسع المكتوبة بأسلوب قصيدة "تانكا" أي "الأغنية القصيرة" مع أصلها الياباني.

عاش الشاعر فترات عصيبة من الفقر والمرض، وكان يقضى معظم وقته في القراءة والكتابة والتأمل وحيداً. عمل في التدريس والصحافة إلى أن خطفه المرض قبل أن يكمل عقده الثالث، تاركاً خلفه إنتاجاً غزيراً في المقالة والرواية والشعر واليوميات والنقد.

دخل تاكو بوكو معمعة الحياة في عز اصطدام المجتمع الياباني بقيم الحداثة الغربية، أي في لحظة مفصلية من تاريخ اليابان المعاصر. في يابان ذلك الوقت انتشرت الأفكار الأوروبية الثورية، وهكذا قرأ الشاعر منظّر الفوضى الروسي بيتر كروبوتكين (1842-1921)، وأعجب به إلى درجة كبيرة. لم يقدم نفسه شاعراً فوضوياً ولا حتى ملعوناً، على طريقة الأوروبيين، بل كأنه أراد أن يقول بشكل بسيط إن لا مكان له في يابان تلك الأيام.

الكتاب الذي بين يدينا يضم عمله الشعري، حيث يحتفي الشاعر بالتفاصيل الدقيقة في حياته ملتقطاً الصور الحياتية كما هي، في ومضات، بعيداً عن بلاغة المجاز، أقرب إلى اللسعة الروحية السريعة، عليك أن تقرأ التانكا بهدوء وتأمل، هكذا تتداعى أمامك المشاهد التي يشرح عضيمة بعض خصائصها وأسرارها في المقدمة. فالتانكا اليابانية التي تقرأ بثلاثة أسطر في العربية، قد تشكل 27 مقطعاً صوتياً في اليابانية، لذا قد يعثر القارئ على صور ربما تصل إلى درجة اللحظة العادية، ومع الإيقاع في تتالي المقاطع وتكوين الحالة البصرية للمفردات يصدمك الحدث بعصفة هادئة تدعو القارئ للتوقف والإعادة.

قُسّم الكتاب إلى تسع مجموعات، رتبت حسب تواريخ نشرها وجمعها، من بينها: "كمشة من رمال"، "نشيد حبي لنفسي"، "أدخنة"، "الذين يصعب أن ننساهم"، "الدمية الحزينة". عناوين الأسئلة المؤلمة، تلفتك بخصوصية جزر اليابان وثقافتها وغموضها، ترى ما الذي حدث هناك في نهاية القرن التاسع عشر؟

ثمة شاعر نحيل، خريفي، ينقب في صور الجبال والوديان عن ذكرياته، لعله يجد خلاصه في أمنية صغيرة: "أما من طريقةٍ/ للخلاص من هذا الوجود/ مثلما هناكَ شجاعة للقفز من الأعالي". أغنية يفتتح بها الشاعر حلمه، متوارياً عن أنظار زحام البشر، وحيداً يكتب مشروعه الوجودي بالتقاطات تكتفي بالصورة من دون معالجة لغوية.

هكذا تأتي مقاطع تاكو بوكو الشعرية، مكثفة تركز على شيء واحد، ويمكن أن تجدها منحوتة قرب مواقف القطارات والباصات والحدائق التي مرّ فيها الشاعر حين لم يكن يسمع به أحد هناك، هي أمة اليابان التي صنعت لها التماثيل واحتفت به بعد رحيله: "حبّذا لو أكتب هذا المساء/ رسالة طويلة/ من يقرأها سيحن إليَّ".

يختار الشاعر من يومياته تفصيلاً أو ذكرى أو حدثاً عابراً، يعيد موسيقاه لاختزال شديد حتى لتبدو لنا بالعربية أنها كلمات بسيطة تماماً، لكنها تخصّه وحده: "عيناي المشعتان برغبة عارمة للمعرفة/ تزعجان أختي/ لأنها فكرت أنني غارق في الغرام".

تلقائية في رسم ملامح المقطع، فالمناخ والثقافة والمحيط الياباني وهموم أهله كلها تحتاج إلى الكثير من القراءة بهدوء حتى نكتشف خصائص هذه "التانكا" أو ذاك "الهايكو"، أسماء لأساليب شعرية تخص اليابان وحده. فالحساسية المضافة لنصوص اليوميات في ذاك الأرخبيل، قد تحوّل عادة ارتداء النظارات الشمسية إلى لمعة مختلفة كما في: "عندما مرضت عيناي/ وصرت ألبس نظارات سوداء/ تعلّمت البكاء على انفراد".

رغم المواجع التي يفرغها الشاعر هنا على شكل أغنيات، لا بد من مرور مشهد يومي يفتح الأسئلة على ظروف الحياة في ذاك المجتمع، فالعزلة تأخذ شكل ردة فعل في بعض الأحيان: "لا أصدقاء/ ولا من يلعبُ معهمُ/ مساكين أطفال هذا الشرطي اللئيم". عليك أن تقرأ المقطع وتغمض عينيك، عليك أن تركز على هذا التفصيل وتبحث في الحكايات عن إجابات لذلك، ربما هو تحريض للكشف إلى جانب المتعة الخيالية التي يقترحها هذا الشاعر في منجزه الغريب.

تتنقل من قسم إلى آخر في مجموعات هذا الكتاب، لتهب عليك مرّات رياح الخريف، ومرة يأتيك صداع المشافي في "الدمية الحزينة" يرثي نهاية ابن السابعة والعشرين عاماً الذي هزّ أمة اليابان بقصة حياته وأدبه قبل مئة سنة من الآن. ها هو يغلق علينا هوسه قبل أن تخدره الأبدية بالخلود: "أحياناً أخاطب نفسي: "تاكوبوكو رجلٌ مسكين"/ وأحاول تجريب الأحزان".


المساهمون