تاج الوباء صديق الديكتاتوريات

تاج الوباء صديق الديكتاتوريات

07 اغسطس 2020
+ الخط -

أثقلني صندوق الرسائل في هاتفي بمقالات وفيديوهات عن "المؤامرة" المعتبرة التي تقودها أطراف من الأرض أو خارجها (...) لتغيير النظام العالمي، بحربٍ إعلاميّة سوف تضحّي بمئات آلاف من البشر، لترسيخ بنية سياسيّة دوليّة تتناسب مع مصالح من "يسيطرون على العالم". أقرأ بعضها، ولكن لا معنى أن نعرف ما إذا صُنّع فيروس كورونا في مختبرات بشريّة، أم من تفاعلات فطريّة في ضاحية صينيّة تأكل كلّ ما يدبّ على الأرض من كائنات حيّة، تقريباً! لأنّ الكارثة وقعت، وها هي تحصي مزيدا من الضحايا، وتعيد رسم السلوك الاجتماعيّ العام على كوكب الأرض، بملامح هيمنة إجباريّة على حركة البشر، تبدأ بالتباعد الاجتماعي، وتنتهي بكمّ الأفواه وعدم لمس الآخر.

ثمّة مقارنات لعدد الوفيات في العالم سنويّاً جرّاء السل والملاريا التي تتجاوز سنويّاً المليوني شخص خصوصاً. وتجاوز عدد ضحايا كورونا في العالم نصف مليون خلال سبعة أشهر، الأمر الذي دفع دولا إلى رفع حظر التجوال تدريجيّاً، بعد محاولات احتواء انتشار هذا الفيروس، خوفاً من تداعي الاقتصاد أكثر نحو الهاوية. والسؤال هنا الذي لا تجد له جواباً: لماذا لم يكن النظام الصحي في دول كبيرة، مثل الولايات المتحدة، قادراً على ترتيب خطة احتياطيّة لوباءٍ قد يصيب العالم، وهم السبّاقون، حسب معرفتنا، بالمواكبة الطبية؟

لا فرق بين الوباء والديكتاتور. كلاهما يحتاج مواجهة حادّة، ووعيا بلا حدود. 

تبادل الاتهامات بين الدول بتحمّل مسؤولية انتشار كورونا لا يعدو كونه تلاسنا سياسيا، إذ وحتى اللحظة لم يجدوا دواءً يكافح هذا الفيروس بينما تعود الحياة إلى طبيعتها بفرض أنظمة صارمة على التباعد بين الناس وعدم التجمّع، والسؤال: إذا كانت إمكانيّة الشفاء مقدّرة اليوم بشكل واضح، وكانت معايير النظافة والاعتناء بالذات أفضل وقاية، فكيف خسر العالم نسبا كبيرة من اقتصاده؟

ثمّة إدارة إعلاميّة واضحة استثمرت في ترتيب الخصومات السياسيّة مضحيةً بالبشر، سواء لجهة التدجين وضبط حركتهم، أو لجهة الرعب الذي قتل جهلاً أكثر. وكأنّ الطبيعة أيضاً تواطأت مع الإدارات السياسيّة، فامتدّ الشتاء مثلاً في مكان، كجزيرة قبرص، إلى مطلع يونيو/ حزيران، وغاب الصيف الذي يكون عادة بدرجات حرارة تتجاوز الأربعين منذ منتصف مايو/ أيار حتى أواخر شهر يوليو/ تموز، وتراجعت السياحة إلى مستويات متدنية في العالم، وأصبحت البشريّة تحت وطأة خوفها منصاعة لنهاية أثقلت كاهل الوعي بملايين المشاهد المخيفة للنهاية. 

استثمرت إدارة إعلاميّة واضحة في ترتيب الخصومات السياسيّة مضحيةً بالبشر

كانت اللامبالاة قرصاناً يطيح العقول عبر الشاشات، مدافن لا حدود لها، ومعسكرات إسعافيّة لرعاية المصابين، وظائف وأعمال تتساقط، ودول تضبط خصوماتها السياسيّة الداخليّة تحت هذه الكارثة، فيما دول عربيّة مثل مصر تعتّم على الضحايا وتغرق في ديونها وإفقار الشعب!. أجل الأخير هو من كان يحتاج للتوعية في العالم، في البلدان العربيّة، في أوروبا وآسيا والأميركيتين. لم تفرق بينهم قوة فتك "كوفيد 19"، لم تطلب منهم جوازات سفرهم ولا رخص الإقامة والمؤقتة. لم تنتظر حسماً عسكريّاً أو حلولاً سياسيّة لتضع الجميع على محكّ الهاوية، وما النتيجة؟ عادت المظاهرات إلى الشوارع مع كمّامات على الوجه، وتعاظمت العنصريّة في مشهدٍ أشعل العالم توتراً! وفي المحصلة، القرار بيد الشارع، مهما كانت أشكال المؤامرات المزعومة، ولا تزال الإصابات تتضاعف.

 ارتباك غير مبرّر للموت، وفرضيّات مؤامرة تغطي تجارب فاشلة في إدارة الأزمات

الوعي المتزايد لألعاب السياسة كان قد خسر جولة طوال الأشهر الثلاثة الماضية، فانهارت عملات محليّة واختفت من الأسواق معادن ثمينة. مثلاً كان تجار الحرب في سورية ينقبون عن الثروات والآثار ويخفون الذهب، وكذلك هناك من بدأ بالتنقيب وسط البحر عن الغاز الطبيعي، بالاستناد إلى التاريخ الاحتلاليّ لأجداده، وغيرهم من قتل مواطناً خنقاً تحت ركبته في بلد "الحريّات" فاشتعلت الشوارع، وما إن أخذ العالم نفساً حتى رجعت الصرخات، فالناس تعايشت مع الوباء أسابيع قليلة، وقد تجاوز أغلب من أصيبوا بكورونا محنتهم المرضيّة، ولكن المثير هو التعليم عن بعد الذي لا أعتبره إلا واحدا من أشكال تلقين الضرورات المقبلة، والتي ستكون أكثر إمساكاً بروح الحياة، فمعظم الجامعات حسمت أمرها بالتعليم عن بعد حاليّاً، وتضع شركات عملاقة الآن استراتيجيّات جديدة لإدارة أعمالها عن بعد؛ من المنزل، وهذا بحدّ ذاته ما أراه إفقاراً للحياة وفرضاً يتوّجه الوباء للديكتاتوريّات الجديدة. 

نظرة شاملة على ما يصل إلينا من المشهد المغلق في مدنٍ لا أضواء فيها ولا كاميرات. هناك ارتباك غير مبرّر للموت، وفرضيّات مؤامرة تغطي تجارب فاشلة في إدارة الأزمات. ومع موسم جديد من الإصابات، بدأ قبل أيام في دول اعتبرت أنّها سيطرت على الانتشار، نسمع أخباراً عن رفض مستشفيات ومصحّات ومراكز رعاية استقبال عشرات آلاف من المصابين، فالغاية أن تتعلّم الشعوب سماع كلمة السلطة حتى لو "بالنظافة عن بعد"، لأنّه لا فرق بين الوباء والديكتاتور. كلاهما يحتاج مواجهة حادّة، ووعيا بلا حدود.