تأملات صباحية

تأملات صباحية

15 اغسطس 2020

(ضياء العزاوي)

+ الخط -

(1)

كعادتي كل صباح، أستيقظ، أتناول أدويتي وأفتح باب الشرفة، لأتكيف مع حالة الحر في القاهرة، وأرى آثاره على أحواض صغيرة تضم أنواعا مختلفة من النباتات التي تقاوم الحر، وتصرّ على اخضرارها. أحضر الماء وأسقيها، ثم أنظف شرفتي الصغيرة من أثر سواد عوادم السيارات والحياة التي لا تتوقف في الشارع أسفل بيتي. أجهز قهوتي، وأجلس على الشرفة بين الزرع. في هذه الأثناء، تكون الشمس قد بدأت تشق طريقها قادمة نحوي. لأشعة شمس القاهرة الصيفية لسعاتٌ لا يمكن احتمالها أكثر من دقيقة. أدخل إلى غرفة الجلوس، أشغل جهاز التكييف. في داخلي مونولوج شكر طويل للشخص الذي اخترع التكييف، أفضل حل للبلاد الحارة، فأنا من الذين لا يحتملون الحر والرطوبة. أنجبتني أمي في منتصف شهر مايو/ أيار في مدينة ساحلية. لا أتذكّر طبعا إن كان الجو حارا وقتها، ولكن حتما كان رطبا جدا. يقال إن علاقة الشخص بالفصول تتناسب عكسا مع شهر مولده، كما لو أن هذه العلاقة العكسية نوع من الاحتجاج الخفي على قرارٍ لا يد له فيه، قرار إنجابه إلى الحياة، وكل ما سوف يلي هذا الإنجاب! إذ إن الإنسان عموما خلق ليرفض، لا ليقبل، خلق متمرّدا وعاصيا، أتت الأديان لتدجنه، وحصل ما حصل، خلق الإنسان معترضا، مهما كانت ظروف حياته، لاحقا، جيدة، فثمّة ما سوف يثير احتجاجه ورفضه واعتراضه. أظن، مجدّدا، أن للأمر علاقة بخيار إنجابه إلى الحياة من دون رأيه، ليموت بعدها وكأنه لم يوجد.

(2)

تبدو الصفحة الرئيسية في "فيسبوك" كما لو أنها صفحة الوفيات في صحيفةٍ محلية، أو سجل التعازي في مقبرة ما. من عاداتي السيئة أنني أتصفح "فيسبوك" في الصباح، وأنا أدرك تماما أثره السيئ على مزاجي وحالتي النفسية باقي اليوم، إذ منذ أصبحت هذه الصفحات الزرقاء جزءا يوميا مهما من حياتي، ارتفع معدلي في التوتر والغضب. ثمة ما ينتقل إليك مباشرة، وأنت تتصفح هذا العالم! لا أعتقد أنه عالم افتراضي مطلقا. لو كان كذلك حقا، لماذا نشعر بهذا الغضب ونحن نقرأ كتابات كتبها آخرون لا نعرفهم؟ لماذا نتوتر وتنتقل إلينا الكراهية والضغينة والبغضاء، ونحن نتابع تعليقات لمن هم مجهولون تماما لنا، وقد تكون أسماؤهم مزيفةً وصورهم مزيفة، ومع ذلك يتمكّنون من جرّنا إلى دوائر الغضب والحقد والضغينة! ثم كل هذا الموت اليومي لأقارب وأصدقاء، من نحن على تواصل معهم (افتراضيا)، هل هو افتراضي أيضا؟ هو موت حقيقي للأسف، وهو قريب جدا من دوائرنا. تبدو صفحة فيسبوك الرئيسية كجدران دمشق التي يتم إلصاق أوراق النعي عليها، وهو ما ليس دارجا في مصر، لم أر في القاهرة نعيا معلقا على جدار، بينما تمتلئ جدران سورية بهذه الأوراق البغيضة. أتخيلها الآن، مع كل ضحايا الحرب والإجرام الحاصل، ومع ضحايا كورونا أيضا. يقولون إن عدد ضحايا كورونا فاق التوقعات، قياسا إلى ما تبقى من سكان سورية المنكوبة، لم يكن ينقص السوريين غير كورونا. في داخل سورية وخارجها. يموت أحباء وأصدقاء بسبب كورونا، وما يتبقى لهم مجرّد ورقة نعي على جدران سورية أو على صفحات فيسبوك. حتى التعازي أصبحت افتراضية، صرنا نقرأ أسفل ورقة النعي "تقبل التعازي هاتفيا أو عبر وسائل التواصل". 

يا للهول، كانت مراسم العزاء تخفف حزن أهل الراحل. نحزن وحدنا الآن، ما من يد تربت على أكتافنا، ولا ضحكة خفية يسببها موقفٌ ما في عزاء ما. ضحكة هي الجسر الذي يصل الموت بالحياة، ضحكة وربتة كتف وألفة وتلاحم، يبعد برودة الموت عن أهل الراحلين. الآن، سوف نواجه هذه البرودة وجها لوجه، كجنود في معركة دامية، يتعاملون مع الموت كما لو أنه قطعة خردة قديمة لا تلفت الانتباه. 

(3)

خلقنا في منطقة متوترة، مهما ابتعدنا عنها بالمسافة، سوف نبقى قريبين، أن نذهب إلى آخر الأرض لا يعني أننا صرنا من أهل آخر الأرض، نحن مركّبون عصبيا ونفسيا بتفاصيل المكان الذي ابتعدنا عنه. لا يمكننا الهروب مطلقا مهما حاولنا، نحن مشدودون بخيط خفيٍّ إلى هناك، خيط يستحيل قطعه، أو التملّص منه، كلما قرّرنا الهروب يشدّنا أكثر، وأحيانا يسوطنا كجلاد عنيف، لا يُنجينا أننا خلقنا عصاة ومتمرّدين، وأننا نؤمن بأرضٍ واحدة لكل البشر. لقد دجنتنا القوانين والسياسات والمعاهدات والحروب والقناعات والعقائد. دجّنتنا أيضا العوالم الرقمية، نحن مشدودون بخيوط خفية إلى ذلك كله من دون أن نجد المفر.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.