بُني سد النهضة وقُضي الأمر

بُني سد النهضة وقُضي الأمر

02 مارس 2020
+ الخط -
بعد أن آلت مفاوضات واشنطن بشأن سد النهضة إلى تراشق بالبيانات الرسمية، فلا معنى لذلك سوى أن المسار التفاوضي انتهى عملياً، حتى وإن ظل معلقاً أو مفتوحاً على الورق، فبعد أشهر قليلة، تبدأ إثيوبيا عملية ملء بحيرة السد جزئياً، وحينئذ لن يكون للتفاوض معنى.
كان الأسى واضحاً في بيان وزارة الخارجية المصرية، وغلب عليه الاستعطاف وقلة الحيلة. وكاد يذكُر صراحة أن القاهرة قدمت كل ما يمكن تقديمه من تنازلات ومرونة وحسن نية وثقة في الطرف الإثيوبي. فيما جاء بيان وزارة الخزانة الأميركية صريحاً وكاشفاً، ووجه رسائل محددة. أهمها دعوة إثيوبيا إلى الانتهاء من مشاوراتها الداخلية (الحجة التي انسحبت بموجبها من المفاوضات) في أقرب وقت، حتى يمكن توقيع اتفاق. ومعنى هذه الدعوة أن لا مهلة محدّدة، ولا موعد نهائياً لعودة إثيوبيا إلى التفاوض. وتتبدى خطورة ذلك المعنى من إشارة بيان واشنطن الصريحة إلى ضرورة استيفاء إجراءات السلامة المطلوبة في السد وفقاً للمعايير الدولية، قبل الملء.
أما لحظة الحقيقة الصادمة، فجاءت بعد البيان الأميركي بساعات، حيث ردّت إثيوبيا ببيانين متتاليين ملؤهما التحدّي، أولهما من وزارة المياه، تقول فيه إنها ستشرع في ملء السد بالتوازي مع إكمال البناء. وبعده بساعة صدر البيان الثاني عن مجلس الوزراء الإثيوبي، أعلن فيه عدم مشاركة بلاده في أي مفاوضات "من شأنها الإضرار بمصالح بلاده". لتقطع إثيوبيا الشك باليقين في انسحابها من مسار مفاوضات واشنطن، وكأنها تخرج لسانها للجميع، قائلة هذا موقفي فأروني ماذا لديكم!
كانت إثيوبيا تعوّل على مزيد من التسويف والتمديد، فطوال جولات التفاوض العديدة التي جرت خلال السنوات الماضية، لم يتغير النهج الإثيوبي بالمماطلة والتسويف والتهرّب من أي التزام محدّد تجاه دولتي المصب. وكان خطاب أديس أبابا دائماً عاماً، ويجمع بين التمسّك ببناء السد باعتباره مشروعا قوميا غير قابل للمناقشة أو المراجعة، والحرص على طمأنة المصريين تجاه التأثيرات السلبية للسد، بالتوازي مع استمرار التنفيذ الفعلي لمشروع السد.
السياق الوحيد الذي انخرطت فيه إثيوبيا، ويحمل طابعاً قانونياً، هو إعلان المبادئ الموقع في مارس/ آذار 2015، والذي يعتبر بناء السد "حقاً" إثيوبياً، على ألا ينجم عنه إضرار "جسيم" بمصر والسودان، والاتفاق على تسوية أي خلافات بالتفاوض. ما معناه أن الإطار التعاقدي الوحيد الذي وافقت عليه إثيوبيا يكرس الأمر الواقع، ويفرض الالتزام به على دولتي المصب، ولا يقدّم الجانب الإثيوبي مقابله سوى تعهدات عامة ذات طبيعة معنوية غير إجرائية.
لو لم تكن أديس أبابا تدرك جيداً محدودية الضغط الأميركي المتوقع عليها، ما أقدمت على خطوة الانسحاب، ثم إعلان التحدّي بهذه اللهجة الخشنة. وبالطبع، لو كانت ترى، ولو للحظة، أن لدى مصر أي ورقة ضغط أو سبيلاً لوقف تلك المماطلة ومواجهة سياسة الأمر الواقع التي تباشرها منذ سنوات، لما استمرت على تلك السياسة.
والواضح أن ثمّة فجوة زمنية بسيطة لا تزيد عن أشهر قليلة هي التي تفصل بين نهاية مسار التفاوض وبداية تشغيل السد بعد ملئه وإكمال بنائه، فلو كانت إثيوبيا نجحت، كما كانت تخطط، في تمديد زمن المفاوضات بضعة أشهر، لأصبحت في وضع لا تملك مصر والسودان إزاءه سوى قبول اتفاق شديد الإجحاف لا يقدّم أي شيء، بقدر ما يقنن السد ويشرعنه، بعد أن يكون اكتمل فعلاً.
كانت مفاوضات واشنطن، في جوهرها، محاولة لانتزاع التزام تعاقدي إثيوبي، يضمن ولو حدّاً أدنى من احتياجات مصر المائية. وبعد أن تظاهرت أديس أبابا بالتماشي مع هذه المحاولة، اضطرت، في النهاية، إلى كشف موقفها الحقيقي الرافض أي التزام أو اتفاق يقيدها بأي درجة. ولم يعد أمام كل الأطراف سوى الاعتراف بذلك، وترتيب الأوراق وفقاً لهذا الوضع الذي لم يعد قابلاً للإخفاء أو الادعاء.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.