بين كثير شكوى وصاحب رأي

بين كثير شكوى وصاحب رأي

29 يناير 2020
+ الخط -
تتنوع علاقاتنا الإنسانية بتنوع حياتنا وبيئاتنا، واختلاف تواصلنا وعلاقاتنا الاجتماعية، وهو تنوعٌ لا سمة محددة له، إذ يختلف بحسب اختلاف الطبائع الإنسانية وتطور هذه العلاقات الإنسانية.

وقد دندنت زمنًا في خلدي أن شكل هذه العلاقات أشبه ما يكون بالدوائر، وكل نمطٍ من أنماط العلاقة هذه له سماته وأطره والشخصيات التي تضمها فيه، وقد علمت لاحقًا أن هذه النظرية موجودة، تتلخص أن لكلٍ منا دوائر متنوعة من العلاقات، بعضها نُلزم بها لا نستطيع الفكاك منها، على غرار العائلة، وهي أول هذه الدوائر وأهمها، أو دائرة زملاء العمل مع ما تكتنفه من تخفف في مقارنة بالأسرة، وهناك دوائر أخرى يمكن للمرء التنصل منها والانزياح عنها، وتكون أنماط العلاقة فيها أقل التزامًا ومسؤولية. وتتقاطع هذه الدوائر في ما بينها، لتنشأ شبكة من العلاقات ضمن المجتمع الواحد، والبيئات المختلفة، وغير ذلك من الأمثلة مما لا يتسع المقام إلى بيانه.

وفي خضم هذه الدوائر وما تحتويه من علاقات، نلاحظ بعض الأشخاص ممن حباهم الله تعالى رأيًا وفهمًا، يحسنون الاستماع، ويقدرون على إبداء النصح المفيد، والرأي الصائب السديد، ويمضون في حل بعض مشاكل أقاربهم وصحبهم، وهي غالبًا مشاكل تصل إلى أصحاب الرأي من مختلف الدوائر المحيطة بهم، من العائلة أو الأصدقاء والزملاء، وغيرهم.

ويتنوع موقع "المستشار" منها بحسب بعده أو قربه من هذه الدائرة أو تلك، ومن ثم علاقته بالشخص السائل، وآلية الحل التي يقترحها، ومدى صعوبتها وتشابك تفاصيلها.. إلى هنا يظل الأمر في نطاق الخير متعلقًا بدرجة صعوبة المشكلة، وحاجتها لمتخصص في مجال ما، والمدى الذي يستطيع معه الناصح الأمين حلها. ومما وجدته بعيدًا عن دراسة وتخصص هؤلاء، أنهم - غالبًا - يتعاملون مع المشاكل بناء على رصيد كبير من الخبرات الحياتية، ورأي وفهم نابع مما عاركوه في هذه الحياة، وما أضافوه إليها من علوم ودراسة وغير ذلك، تضاف إلى باعثٍ داخلي لحب الإصلاح، ورأب الصدوع، وإزالة أسباب الخلاف مهما كانت.


هذه الهبة وهذا الباب من الخير، يتحول أحيانًا إلى نوعٍ من النقمة، إذ يتحول اللجوء إلى أصحاب الرأي من أمثال هؤلاء، إلى إجراءٍ تكميلي، أشبه ما يكون بجرعة من المسكنات، تتم الاستعانة به عند الحاجة والألم، ويُترك في أوقات الصحة والدعة والخلو. ستقول لي أخي العزيز ألم يتصدر هو لحل المشاكل، ويتقبل هذا النمط من "وجع الرأس" فعليه إذًا تحمل عواقبها!

نعم هذا الكلام صحيح، لو كان في واحدةٍ من لجان إصلاح ذات البين، أو أنه يعمل مستشارًا أسريًا أو نفسيًا، يقضي عمله القيام بهذه الاستشارات، والعمل على متابعتها وحلها.

أما أن تكون هذه الحالة من واحدة من الدوائر المقربة جدًا، ستتحول إلى عقاب دائم، وقد بث لي أحد الأصدقاء شكواه، أنه يشعر بتحوله إلى حبة مسكن "بندول"، لا يتم اللجوء إليه إلا عندما تستعصي الأمور على بعض معارفه، أما في غيرها من الأوقات، يظل موقعه هامشيًا، بالنسبة للأشخاص أنفسهم، ما أصبح يولد لديه شعورًا سلبيًا، ورغبة في الانسحاب من هذه العلاقة، أو أن يتحول إلى استجابة فاترة، فليس من العدل أن يوظف كل مشاعره وأفكاره في مشاكل الآخرين، ويبقى هو على الهامش.

وتتفاقم هذه الحالة عندما تكون المعاناة مع أحد الأقرباء على سبيل المثال، إذ تكون لديه مشكلة متكررة، ومع تكرر السؤال وتنوع أساليب الحل، وعدم نجاعتها أو المضي في أيّ منها، تصبح هذه الشكوى هدفًا بحد ذاته، لا لإحداث تغيير، أو تصحيح سلوكٍ، بل لتفريغ الشحنة السلبية من مشاعر السائل، وحاجة ملحة للوصول إلى الراحة، وتفريغ ما جاش في الصدر، ويرمي الحلول وراء ظهره فقد نال أربه، وتكرار هذه الواقعة يدفع صاحب الرأي نحو المزيد من الانعزال، واللامبالاة.

وتحضرني هنا تلك الطرفة التي تُنشر عبر شبكات التواصل، عن صديقين يبث الأول للثاني همومه، فيقول له إن عليّ ديونًا كثيرة، فيردّ الثاني لا تحدثني عن الدين، عليّ ما يفوق ديونك أضعافًا مضاعفة، ومن ثم يعود الأول ويقول لديّ صداع قوي، فيقول الثاني لا تحدثني عن المرض، عندي وعندي.. وهكذا دواليك كأن الثاني في سباقٍ دائم مع الأول بالمصائب والكوارث وشدة الضنك وشظف العيش، ولا يسمع منه كلمة تبلسم مشاعره وتهدئه، فما يحدث حقيقة هو على المقلب الآخر، إذ يظل "المستشار" يسمع الشكوى تلو الأخرى، ولكنه في نهاية المطاف سيصاب بنوعٍ من البلادة تجاهها، وتتحول الأجوبة إلى لوازم ساكنة من "الحسبلة والحوقلة والحمدلة".

أخيرًا، ليست هذه إلا مشاهداتٌ رأيتها بأم العين عند الكثيرين، تتفاوت بحسب الموقع والتعليم والعلاقة، ولكنها جزءٌ من الواقع الاجتماعي الذي نراه في كثيرٍ من الأحيان خاصة أمام حالة الشكوى التي تستفحل في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية، واختناق الأفق بأنواع من المشاكل التي لا حد لها.

لذلك وفي ظل ما يجري، أدعو الإخوة الذين يحبون البوح بمشاعرهم ومشاركة الآخرين بمشاكلهم، أن يقصروا في شكواهم، وأن لا يبثوا همومهم للبث فقط، بل لكي يعملوا على حلها، فلكلٍ همه الذي يثقل ظهره، وينوء به كاهله.. وإلى أصحاب الخير والرأي أن لا يركنوا لكثرة الشكاوى، فقد حباهم الله تعالى بابًا من أبواب الخير، لا يغلقوه جراء لحظة تبرمٍ وضجر، وألا تغلبهم همومهم، فهم على ثغرٍ عظيم، يمكن لكلمة منهم أن تشفي جروحًا قانية، وتبلسم أفئدة تعسة.

والسلام..
31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".