بين السلاح والفيروس

بين السلاح والفيروس

29 ابريل 2020
+ الخط -
أصدر معهد استوكهولم لدراسات السلام (SIPRI)، وهو مؤسسة بحثية تراقب قضايا التسلح والإنفاق الدفاعي في العالم، تقريره السنوي لعام 2019، أول من أمس الاثنين. لم يأت التقرير بمفاجآت كبيرة، بل أكد توجها عالميا نحو مزيد من الإنفاق العسكري، مدفوعا بعودة التنافس بين القوى الكبرى، وهو وإن كان يقتصر على المجالين، الاقتصادي والتكنولوجي، إلا أن القدرات العسكرية تبقى حاضرة بقوة في خلفية مشهده. أوضح التقرير أن العالم أنفق العام الماضي 1,9 تريليون دولار على الدفاع والأمن، أي نحو 2,2% من الناتج الإجمالي العالمي البالغ 87 تريليون دولار، أي بزيادة مقدارها 3,8 تريليونات عن العام 2018، وهي أعلى زيادة سنوية منذ عام 1988، عندما قرّرت الولايات المتحدة أن تحسم مرة واحدة، وإلى الأبد، سباق التسلح مع الاتحاد السوفييتي بقفزة كبيرة في نفقاتها العسكرية. أكثر من نصف هذا المبلغ (تريليون دولار) كان من نصيب ستة أعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كندا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، فيما استأثرت الولايات المتحدة وحدها بـ38% من كل الإنفاق الدفاعي العالمي (732 مليار دولار) بزيادة 5,4% عن العام الماضي. وحلت الصين في المرتبة الثانية بإنفاق دفاعي بلغ 261 مليار دولار (أو 14% من إنفاق العالم)، وجاءت بعدها غريمتها الهند، إنما بفارق كبير، (71 مليار دولار) ثم روسيا (65 مليار دولار) وتأخرت السعودية إلى المرتبة الخامسة، حيث أنفقت العام الماضي 62 مليار دولار فقط على الدفاع والأمن، بعد أن ظلت تحتل المرتبة الثالثة على مستوى العالم منذ 2015، ويعود ذلك بالطبع إلى تراجع أسعار النفط وانخفاض الموارد.
المفاجأة الفعلية التي رصدها التقرير، إذا صحّ وصفها كذلك، كانت ألمانيا، التي زاد إنفاقها الدفاعي العام الماضي بمقدار 10% عن العام الذي سبقه، وهي أعلى زيادة بين الدول الـ15 الأكثر إنفاقا على التسلح في العالم. وقد بلغ إنفاق ألمانيا 49,3 مليار دولار، لتتقدم بذلك على بريطانيا، وتتساوى مع فرنسا. مع ذلك، وعلى الرغم من هذه الزيادة، ظل الإنفاق الدفاعي الألماني بحدود 1,38% من الناتج الإجمالي القومي.
وفيما تتركّز الأنظار على التنافس بين أول وثاني العالم في الإنفاق العسكري (الولايات المتحدة والصين)، يلفت التقرير إلى التنافس الذي أخذت حدّته تزيد على الساحة الأوروبية بين كل من روسيا وألمانيا، فالزيادة الكبيرة في إنفاق ألمانيا الدفاعي لا يأتي، كما يُعتقد، مدفوعا بالضغط الأميركي على أعضاء "الناتو" لرفع نفقاتهم الدفاعية إلى 2% من الناتج الإجمالي القومي، بل نتيجة تعاظم الشعور الألماني بالتهديد الذي باتت تمثله روسيا على المصالح الألمانية، خصوصا في الخاصرة الشرقية للاتحاد الأوروبي، من مولدوفا جنوبا إلى البلطيق شمالا مرورا بأوكرانيا.
كما في كل مرّة، كان يمكن لهذا التقرير أن يمرّ من دون اهتمام كبير، لولا أن صدوره تزامن هذا العام مع انتشار فيروس كورونا، وتداعي النظم الصحية أمامه، بما فيها في الدول الـ15 الأكثر إنفاقا على التسلح، وانفتح الباب واسعا، بذلك، على مقارناتٍ بين الموازنات المخصصة لقطاعي الصحة والدفاع. الفكرة هنا، كما يطرحها الرافضون سباق التسلح والحقوقيون وجماعات السلام والبيئة، أن استمرار الصراعات بين الدول لم يعد مبرّرا، نظرا لأن البشرية جمعاء باتت تواجه تهديداتٍ وتحدياتٍ لا تعرف حدودا جغرافية أو سياسية، كالأوبئة والتغيرات البيئية والمناخية وشحّ الموارد. وقد بينت الأزمة الراهنة أن مصير العالم بات مترابطا بشكلٍ غير مسبوق، ذلك أن فيروسا التقطه شخصٌ في مقاطعة ووهان الصينية انتقل حول العالم ليصيب الملايين، ويقتل مئات الآلاف، ويحجر على نصف البشرية، ويشل الاقتصادات، ويدفع أسعار النفط إلى الانهيار، ويكلف كثيرين وظائفهم، ويهدّد الأمن الغذائي العالمي. أمام هذه التحديات، يصبح إنفاق تريليوني دولار على التسلح ضربا من الجنون الدونكيشوتي. بفعل الوباء، تنتشر هذه الأطروحة وتتعزّز، ويبدو أننا نتجه، فعلا، كما اقترح تقرير معهد استوكهولم، إلى خفض موازنات التسلح العام المقبل، لكن هذا ليس لأن العالم بات أكثر تعقلا، بل لأنه لم يعد يملك المال الكافي للمحافظة على المستوى نفسه للإنفاق، هي إذا استراحة قصيرة يستأنف العالم بعدها حفلة الجنون.