بين الراهب هيبا ومقتدى الصدر

بين الراهب هيبا ومقتدى الصدر

29 يناير 2020
+ الخط -
ثمّة نمط من التماهي بين هيبا، الراهب في رواية يوسف زيدان "عزازيل" والزعيم العراقي مقتدى الصدر الذي عبّر عن إعجابه بالرواية المذكورة أكثر من مرة. وثمّة توافقٌ بين عزازيل، الشيطان الذي كان يأمر هيبا وهيبا يطيع، ومرشد "الثورة الإسلامية" خامنئي الذي أمر بجمع رؤوس "المليشيات الوقحة" بتعبير الصدر، ومع الصدر نفسه. وفي اجتماع مغلق عُقد في مدينة قم الإيرانية، تم إجراء مصالحةٍ بينهما بهدف مواجهة استحقاقات مرحلة ما بعد مقتل "الجوكر" قاسم سليماني، على خلفية عجز حكومة بغداد عن إنهاء انتفاضة/ ثورة تشرين، وإدراك إيران أنها مستهدفة في ما اعتبرتها واحدةً من عواصم إمبراطوريتها، وقيل إن الاجتماع أوكل مهمة قيادة الفصائل المليشاوية في العراق للصدر الذي لا يزال يحظى بمساندة شريحةٍ من فقراء الشيعة العراقيين، وإن كان قد خسر ثقة كثيرين من أنصاره جرّاء مسيرته السياسية التي اتسمت بالتقلّب والغموض. 
ومع دخول قم على الخط على هذا النحو، بدا المسرح السياسي العراقي مهيأ بامتياز لإطلاق ثلاثة فصول جديدة، بطلها مقتدى الصدر الذي عوّدنا على بطولاته في التحوّل من النقيض إلى النقيض، وإلباس تلك التحولات الثوب الوطني الفضفاض الذي يتسع لكل التناقضات. فصول الصدر الثلاثة، هذه المرّة وكما في كل مرّة، حملت عناوين مثيرة وملفتة: "المليونية" المناهضة للوجود الأميركي، ومبادرة "الحفاظ على سيادة العراق ووحدته، وسلامة أرضه"، ثم الإعلان عن معادلة "عدم التدخل في شأن المنتفضين حتى يراعوا مصلحة العراق"، الفصل الأخير كان يعني أن الانتفاضة سوف تتعرّض للقمع المغلّظ حتى تنكفئ!
انتهت "المليونية" بسلام، لم يحدث ما يعيق سيرها، قدم المتظاهرون إلى ساحات التظاهر في 
حافلات حكومية، وقد زوّدوا بوجبات غداء وقناني مياه معدنية، وبينهم من تسلم بضعة آلاف من الدنانير لحساب العودة إلى المنزل. لم يتصدّ للمتظاهرين قناصٌ مجهول أو معترضٌ ملثم، ولم يطلق في مواجهتهم الرصاص الحي أو قنابل الغاز. هكذا مرّ هذا الفصل العبثي من دون مضاعفات، لكن مقتدى الصدر لم يدع الأمور تجري بسلاسة وأمان، إذ رمى حجرا في مياهٍ هي في الأصل لم تعد راكدةً، فزادها جموحا وجنونا، عندما أعلن عن "عدم التدخل في شأن المنتفضين، لا سلبا ولا إيجابا، حتى يراعوا مصلحة العراق"، تحت حجة "وجود أقلام خارجية مأجورة" تشكّك به وبمواقفه. وقد أجهض بإعلانه هذا مبادرته التي أطلقها من قبل، كما مثّل إعلانه إيذانا بتخلّي أنصاره عن دعم الانتفاضة، وانسحابهم من ساحات الاعتصام. وهذا ما حدث بالفعل ليلة السبت الفائتة، إذ انسحب الصدريون، باستثناء من رفضوا التخلي عن دعم الانتفاضة، معرّضين أنفسهم لعقوبة الطرد من عضوية "التيار الصدري" جرّاء موقفهم ذاك.
في الفجر التالي، اقتحم رجال المليشيات والقوات الأمنية ساحات الاعتصام في بغداد، وعدة مدن عراقية، وشرعوا في تنفيذ ما هو موكل إليهم: ترويع المنتفضين ومحاولة فض الانتفاضة بالقوة. تم تسجيل عشرات الإصابات بالرصاص الحي وقنابل الغاز والسكاكين المسنّنة، لكن هذه "الصولة" لم تفلح في تحقيق هدفها، إذ عاد المنتفضون إلى ساحات الاعتصام بزخم أقوى، مؤكّدين أنهم باقون حتى تحقيق مطالبهم. عندها أسقط في يد الصدر، ما دفعه إلى إطلاق رسالة تهديد للمنتفضين بأنهم إذا لم يرضخوا له، فسوف يعمد إلى "مساندة القوات الأمنية لبسط الأمن"، بعبارة أخرى لقمع الانتفاضة وإنهائها بأي ثمن!
هذا "السيناريو" المتعدّد الفصول، والذي تم طبخه على عجل في اجتماع قم لم يستطع أن يغير من خريطة المشهد السياسي في العراق الذي تكتنفه رياحٌ هابّة من كل الاتجاهات، إذ بقيت موازين القوى على حالها تقريبا، وحتى الانتفاضة التي سجلت نقطة لصالحها، باستقالة وزارة عادل عبد المهدي، لم تستطع أن تتقدّم خطوةً أخرى. وزاد الأمر تعقيدا وحراجة أن موقف القوى الدولية والإقليمية لا يزال ملتبسا، على الرغم من مطالباتٍ شعبيةٍ عراقية بضرورة التدخل لحماية العراقيين من بطش حكومتهم الذي أوقع، حتى الساعة، أكثر من سبعمئة شهيد وخمسة وعشرين ألف جريح، ومثل هذا العدد بين معتقل ومختطف ومغيب. واكتفت الأمم المتحدة، على لسان ممثلتها في بغداد، بإدانة منهج القمع الصارم الذي تتبعه الحكومة. وهذا يعني أن أياما مصيرية أخرى تنتظر العراق، وأن الساحة مفتوحة على كل الاحتمالات، والنهاية التي سوف سيؤول إليها الصدر ستظل هي الأخرى كذلك، تماما مثل نهاية الراهب هيبا في الرواية المعروفة.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"