بين البنادق والمصاحف
"ثورة إسلامية" هو شعار التظاهرات التي دعت إليها "الجبهة السلفية" في مصر مع رفع المصاحف، يوم الجمعة المقبل. وعلى الرغم من استمرار التظاهرات والمسيرات منذ 3 يوليو/تموز 2013، إلا أن هذه الدعوة لقيت اهتماماً كبيراً، كونها صادرة من أحد التنظيمات السلفية المعروفة بتجريم السياسة، وتحريم الخروج على الحكم ورفض الحاكم. غير أن الهجمة الإعلامية ضد الدعوة والجهة الداعية لم تناقش أسباب التظاهرات، ولا تداعيات وصفها بالثورة "الإسلامية"، وركزت على جانب رمزي بامتياز، هو رفع المصاحف. ووصلت الانتقادات من دوائر الحكم، الإعلامية والدينية، إلى حد تكفير من يرفع المصحف في أثناء التظاهر!
الاهتمام المبالغ فيه بمسألة المصاحف وبشعار "ثورة إسلامية" جدير بالتأمل، ففضلاً عن المؤسسات الرسمية السياسية والأمنية، تنافس الأزهر ودار الإفتاء ودعاة السلطة في شيطنة تلك التظاهرات، ونزع الصفة الدينية عنها. تارة بوصف رفع المصحف بأنه فتنة، وتارة باعتباره امتهاناً للقرآن الكريم، وإدراج من دعا إليها، أو يشارك فيها، ضمن الخوارج. هذا الحرص على إبعاد المسألة عن الدين، وخلع ذلك البعد الرمزي عنها، يعكس قلق دوائر الحكم الحالي في مصر، من إسباغ أي تحرك معارض بطابع ديني، خصوصاً إذا اتَّشح برمزٍ له قدسية، تحصنه لذاته، أياً كان من يحمله، لما يعنيه ذلك من تقويض جهدٍ، استغرق عاماً ونصف، لتشويه كل معارض، ووصمه بالإرهاب أو بالخيانة أو بالأخونة. أما السلفي الذي يحمل المصحف، فسيكون من العسير إلصاق أي من الثلاثة به.
وهنا، يكمن المغزى الأعمق الذي يستحق، بالفعل، اهتمام دعاة تظاهرة الجمعة، وغيرهم من الحريصين على لمّ شمل فرقاء الثورة، قبل حلول يناير. فعلى الرغم من أهمية الشمول والتنوع والمظلة الوطنية الجامعة، إلا أن سلوك السلطة، وحوارييها، كشف عن حالة هلع من تحويل الصراع بين الثورة ونظام مستبد إلى صراع بين الحكم والإسلام. ما يعني فتح باب واسع لانهيار الصور الذهنية والمعطيات التي تم حشرها في أذهان البسطاء، مثل خيانة الثوار وإرهاب "الإخوان" وعمالة المعارضين. هذه الكليشيهات ستسقط، إذا صارت المواجهة، ولو مؤقتاً، بين البندقية والمصحف. عندئذٍ، سيكون المصري البسيط أمام مشهد صادم، يجبره على تحديد موقفه، والرد على سؤال: أي الطرفين على حق؟ من عدو الوطن؟
قد يمر يوم الجمعة من دون كارثة ظاهرة، لكنه سيترك خطراً كارثياً على سُلطة 3 يوليو، هو كسر احتكار المصحف. فحتى اﻵن، يتم استخدام الدين فقط بواسطة السلطة، وأذرعها من الشيوخ المحظيين إعلامياً، يزيّنون و"يشرعنون" ما تريده السلطة، فيصبح لدى العامة متفقاً مع "صحيح الدين"، بل هو فقط التدين، وما عداه كفر بواح.
لدخول المصحف، برمزيته وقدسيته، على خط المواجهة، تداعيات أهم في إدارة الصراع من فكرة التظاهر، بحد ذاتها، بل ومن الدعوة إلى أسلمة الثورة. فتلك الدعوة، بالمطلق، تضرها وﻻ تفيدها. ليس جيداً دمغ الثورة، أو مساعي التغيير، بصبغةٍ دينية، أو فكرية، من دون غيرها. لكن، لمخاطبة الشعب، بمختلف طوائفه وعقلياته وتكويناته، لا بد من مجاراة سُلطةٍ، تدغدغ الحس الديني، وتستثير النخوة الوطنية. استخدام الرموز الدينية والثوابت اﻻجتماعية والثقافية خطوة تأخرت كثيراً، بعد أن أثبتت السياسة النخبوية ضآلة تأثيرها في شعبٍ، غالبيته بين أمي وجاهل. وكما شاركت قوى متنوعة متنافرة في ضرب ثورة يناير، مطلوب، أيضاً، شراكة بين الجماعات الدينية (إسلامية ومسيحية) والقوى السياسية، ليبرالية ويسارية وثورية. وتحويل الرمز الديني والإرث الثقافي والقيم المجتمعية إلى مصادر تجميع ﻻ تفريق، ومظلة واسعة متنوعة، تحتوي الكل ﻻ تستبعد أحداً. تجذب البسطاء بمنطقهم ومعتقداتهم، فتقنعهم وتنقذهم من غسيل الأدمغة والانسياق وراء "صحيح الدين" السلطوي.