بين احتضان بيروت وهجران صنعاء

بين احتضان بيروت وهجران صنعاء

08 سبتمبر 2020
+ الخط -

منذ شهر وأزيد تروح فكرة هذا المقال وتؤوب، تسبت وتصحو على غير انتظام، حيث كانت تتوارى في كل مرة عن بؤرة الاهتمام لصالح وقائع وأحداث أسخن، خيولها كانت تتقدم وتربح الرهان على مضمار السباق، وتتصدّر بين نظيراتها عناوين الأخبار وسنام الموضوعات، بما في ذلك مكلمة الأمناء العامين الفلسطينيين، إلى أن صار في الوسع، أخيراً، بلا تكلّف أو افتعال، تظهير هذه الفكرة التي لم تهجع في سريرها يوماً، ولم يداهمها عسل النعاس.
في أوائل أغسطس/ آب المنصرم، تزامنت بمحض المصادفة البحتة كارثتان فظيعتان في كل من بيروت وصنعاء، أودتا بحيوات عدد متساوٍ على وجه التقريب في كلتا العاصمتين، وأدّتا إلى تدمير قلب المدينتين العتيقتين، وشرّدتا، كل على حدة، آلافاً مؤلفة من السكان. وفيما أظهر المجتمع الدولي والعالم العربي أعلى مشاهد الاحتضان والتعاطف مع عاصمة لبنان، لقيت عاصمة اليمن السعيد (متى كان اليمن سعيداً؟) كامل صور الصد والتجاهل والإهمال، لكأن صنعاء مدينةٌ دارسةٌ من زمان عاد وثمود.
صحيح أن الكارثة الطبيعية التي حلّت بعمائر تراثية وأرزاق سكان فقراء معدمين، بعضهم ينام على الطوى في بلد الحرب المنسية وموطن الكوليرا الدائم، قتلت وشرّدت ما لا يُحصى من الناس، كانت جرّاء سيول فيضانية هوجاء لا يد فيها لإنسان، وصحيحٌ أيضاً أن الكارثة التي ضربت بلاد الأرز أتت في خضمّ اضطراب سياسي وإفلاس مالي وتدهور اجتماعي غير مسبوق، في بلد المصارف والطوائف والإعلام، كانت من فعل فاعل، أقله الإهمال، إلا أن التعاطي المختلف، اختلاف الليل عن النهار مع كلتا الكارثتين، كان باعثاً لجملة من علامات التعجّب والاستفهام.
وأحسب أن اليمنيين كانوا، وهم يتابعون بغصّة في الحلق ونشاف ريق، كل هذا التغاضي عن أوجاعهم المقيمة ما أقام عسيب، ويسائلون أنفسهم عن سبب كل هذا التعامي عمّا حلّ بعاصمتهم من مصيبةٍ صارت نسياً منسياً في الحال، قد تضاعف لديهم الحسّ بالمرارة، وراودتهم مشاعر أسىً لا شفاء منه، عندما رأوا قوافل المتضامنين من كل فجٍّ عميق، تحجّ إلى بيروت زرافاتٍ، تواسيها، تمسح على جراحها، تدلّلها، وتأخذ بيدها إلى برّ التعافي، مقابل النسء والنبذ لبلد أجداد العرب الأولين، وهجران أثيم لصنعاء، وهي أم المدن الحاضرة منذ فجر التاريخ.
ليست هذه الإشكالية عصيةً على الفهم، أو غير قابلة للحل عند أصحاب الحكمة اليمانية التليدة، هؤلاء الذين أضاعوا أنفسهم في حربٍ صارت حروب الآخرين برضاهم، إلى أن آلت صنعاء عاصمة عربية رابعة تختطفها إيران، وباتت ذراع آيات الله لضرب المحيط، ومضت من ثمّة، بعماء بصيرة، عكس اتجاه عقارب الساعة، أدارت ظهرها للعصر، أعادت التموضع في غياهب القرون الوسطى، وأشبعت فقراء اليمن شعارات بلهاء، مثل الموت لأميركا وإسرائيل، واللعنة على اليهود، وكان الله في السر عليماً.
ربما من حُسن طالع بيروت أنها عاصمة بلد له أم فرنسية حنون، لديها خبرة متراكمة في تربية النشء وتجويد البناء، وقدرة على إسعاف كل ملهوفٍ من الأولاد. ومن سوء حظ صنعاء، في المقابل، أن لها زوج أم إيرانياً فظاً غليظ القلب قليل الحياء، اختطف أرملة كثيرة الأبناء، وسامها العذاب. وفيما الأم ذات حضن دافئ، وحسّ مرهف تجاه الأحباب، يبدو زوج الأم صاحب يد ثقيلة وفم كبير، ليس عنده ما يجود به، إلا الصواريخ البالستية والطائرات بلا طيار، وهي آخر ما يقع على سلّم أولويات شعبٍ أشد ما يعوزه الغذاء والدواء والكساء والقات.
وهكذا تجلت عبر تداعيات الكارثتين في بيروت وصنعاء صور ومشاهد لا حصر لها، تدعو كلها إلى التبصر واستنباط العظات، في مقدمتها أن الانفتاح على العالم، التنوع وحيوية المجتمع المدني وشفافية الإعلام، وغيرها الكثير، قد أهّلت البلد المنتمي إلى المنظومة الفرنكوفونية لتلقي كل هذا الدعم والحدب والإسناد، بينما أدّى الانغلاق والحماقات الحوثية، بما في ذلك الارتماء في أحضان الحرس الثوري، إلى تغاضي الجميع عمّا لحق بصنعاء التي لا بواكي لها حقاً، ولا يألم لجرحها أحد في الجوار، تماماً على نحو ما لاقته بالأمس القريب الموصل والرّقة وحلب وغزة من دمار مروّع وسفك دماء، وكله، يا أخا العرب، باسم الحرب على الإرهاب.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي