بين "يرموكين"

بين "يرموكين"

24 مايو 2016
+ الخط -
من الآن فـ"فنازلاً"، يتعين على العرب أن يتريثوا قبل أن يطلقوا عناوين أمجادهم التاريخية على رموزهم المعاصرة، فقد فضحت معركة "اليرموك" الدائرة رحاها في مخيم الموت للاجئين الفلسطينيين في دمشق كل شيء، وما عاد مقبولاً، بعد الآن، أن نقبل بمثل هذه التسميات الجوفاء.
أتساءل حقاً: هل انتصر خالد بن الوليد على الروم في معركة اليرموك سنة 15 للهجرة؟ وهل اعتبرت بحق، وفق مؤرخين، من أهم المعارك العربية، لأنها قادت إلى موجة انتصاراتٍ لاحقةٍ، أدت إلى انهيار الإمبراطورية البيزنطية؟
ربما يتعيّن علينا أن نعيد دراسة التاريخ ثانيةً، لأن الحاضر يبرهن أن "الروم" لم يرحلوا عن هذه الأرض، بل أعادوا تشكيل فيالقهم وكتائبهم، ليخوضوا معركة "اليرموك" من جديد، على أرض مخيمٍ هذه المرة، لا يتعدى مضمار رحاها جسداً مربعاً واحداً.
تحتشد كتائب الروم حول المخيم، ضاربة طوقاً محكماً من حصار الشقيق للشقيق، وتقذف ما تبقى من بيوته وناسه بحممٍ من القذائف الثقيلة، فيما يتوزّع قناصة الروم فوق الأبنية الشاهقة المحيطة بالمخيم، ليزاولوا هواية القنص ضد كل محاصرٍ يُجازف بالاقتراب من الحواجز، بحثاً عن كسرة خبزٍ أو علبة حليب لأطفاله.
أما الخروج والدخول من المخيم، فله مواعيد صارمة، يفرضها "الروم"، وفق أمزجتهم، ويتعيّن على العائدين إلى المخيم، بكيلو غرام من الخبز أن ينتظروا أحياناً ثلاثة أيام على الحواجز، لأن "الروم" في إجازة.
أما عن سيل الشتائم وامتهان الكرامات والإذلال الذي "يغتسل" فيه الداخلون والخارجون، فتلك حكاية أخرى، يلزمها قاموسٌ جديدٌ لجمعها وفهمها، وهي إهاناتٌ تطاول الكبير والصغير، المسن والعاجز، المرأة والرجل، من دون تعيين، مع إمكانية أن يفقد المرء حياته رخيصةً، إذا حاول الرد على الإهانة، ولو بنظرة محتدّة.
وفي داخل المخيم، تبدو الصورة أشدّ قتامة، إذ تذكّر بمشاهد الخراب في الحرب العالمية الثانية، على غرار ما حدث لبرلين إبّان دخول قوات الحلفاء إليها، أبنيةً مسوّاة بالأرض، وجثث مبعثرة لا تجد من يدفنها، وجوعى يهيمون بين الأزقة، ومحتضرون لم يُسعفهم عجزهم بالحصول على رمقٍ أخير من الحياة، وحكايات تروى عن أناسٍ قايضوا كل ما يملكون بكيلو رز أو عدس.
لا يذكّر مخيم اليرموك بمعركة اليرموك، بل ربما بحصار كييف من النازيين، فهو حصار مستمر منذ عام ونصف العام، يشارك فيه رومٌ وشبيحة أسديون، ومنظمات فلسطينية كانت تعتبر نفسها ذات زمانٍ كاذبٍ من حماة المخيم، غير أنها استبدلت معارك "التحرير" التي لم تخضها يوماً على أرض فلسطين، بمعارك العار ضد بني محنتها ونكبتها، وهي نفسها من كانت تقدم رؤوس الفلسطينيين إلى فروع المخابرات السورية، مرفقة بتقارير كيْدية، كما أنها أول من أطلق النار على المتظاهرين الفلسطينيين الذين احتجوا، قبل أعوام، على زجّ أبنائهم في مسرحية "العودة" عبر الجولان، عزّل من دون أي سلاح، ليواجهوا الرصاص الصهيوني، فيستشهد منهم عشراتٌ مجاناً، وذلك كله في محاولةٍ من تلك المنظمات "الذيلية" لتخفيف وطأة الضغط الذي يتعرّض له نظام الأسد جرّاء المظاهرات المستعرة ضد حكم عائلته التي لم يشهد التاريخ العربي مثيلاً لاستبدادها وطغيانها وحجم ضحاياها.
يوماً سينقشع غبار المجزرة عن مخيم اليرموك، وسنكون أمام مشهدٍ يختلط فيه الرعب بالعار، غير أن الخجل وحده الذي سيبقى خارج المسرح العربي الجديد، لأنها خصلةٌ فقدناها منذ زمن بعيد. وعلى الأرجح، سيدخل الروم فاتحين، على أنقاض التاريخ كله، ولن يبقى غير صوت المتنبي الذي فهم اللعبة من أولها، وأدرك مبلغ الهزيمة التي مني بها العرب في معركة اليرموك، فردّد بيته الشهير بأسى:
وسوى الروم من وراء ظهرك رومٌ/ فعلى أيّ جانبيكَ تميلُ
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.