بيض يوم السبت

11 فبراير 2015

بيض في مزرعة دواجن فلسطينية في رفح (يونيو/2011/أ.ف.ب)

+ الخط -

مرت سنوات، قبل أن أكتشف العلاقة السرية بين البيض، الذي تضعه دجاجات جدتي، يوم السبت تحديداً، واليوم نفسه الذي كان يوم الإجازة الأسبوعية لدى عمال غزة، الذين يعملون داخل "إسرائيل"، فكانت المناسبات السعيدة، مثل الزواج والختان، تؤجل إلى يوم السبت، حين يعود آلاف الأزواج والأبناء من العمل طول أيام الأسبوع، ليقضوا نهار السبت بين أحبتهم، ويعودوا إلى العمل فجر الأحد. وكانت جارات جدتي يطلبن "بيض سبت"، فتهز جدتي رأسها علامة الفهم، فتجمعه ويحملنه مسرورات، وأنا أتبعهن، بنظري المحمل بعلامات الاستفهام التي لم تكن لتحلها طفلة في ذلك الزمن، حيث كانت تدور الأحاديث الهامسة بين النساء، ولأعرف، بعد ذلك، أنهن يستخدمن بيض يوم السبت طعاماً طوال ذلك النهار لهن ولأزواجهن، علاجاً للعقم أو تأخر الحمل وتباعده بين الأبناء، وكانت غزة، وما زالت، تباهي بكثرة الإنجاب.
تمر غزة، حاليّاً، في أزمة جديدة، وجدت لها مكاناً بين الأزمات المتلاحقة والمتكدسة التي تعيشها، وهي أزمة غلاء البيض، لأسباب عدة، منها تدمير إسرائيل مزارع الدجاج في العدوان أخيراً، والبرد الشديد، ومحاولة وزارة الاقتصاد تحديد أسعاره، ورفض التجار ذلك، لأنه يلحق بهم خسائر فادحة، والنتيجة شح البيض وغلاؤه في السوق، ووجود صوره ونوادره على صفحات التواصل الاجتماعي ورسوم الكاريكاتير، خصوصاً أن غزة تستهلك ثلاثة ملايين بيضة شهريّاً.
كان البيض، وما زال، الحل السحري لدى زوجات وربات بيوت كثيرات، ومنهن أنا، فقد كنت أسمع العبارة التقليدية من زوجي، وورثها أولاده، عندما لا تعجبهم وجبة أعدها: اقلي بيض عيون.
 وقد صارحتني صديقة بأنها كانت تعتمد البيض اللذيذ الطعم، المتعدد الاستخدامات كـ"سوبر مان" المطبخ، حيث تعده في أوقات تأخر راتب زوجها، وتبحث، الآن، عن حلٍ سحريٍ آخر لدفع عجلة الحياة، بعد تردي أوضاع الموظفين أيضاً.
لم يرق الأمر لمعلمة عانس التقيت بها في مدرسة ابنتي، قبل سنوات من الحصار، حين كانت البيوت الغزاوية عامرة بالخير، من عمل الأبناء والأزواج داخل "إسرائيل"، حيث كانت تلك المعلمة تعبر عن سخطها من شغب الصغيرات، وقلة تهذيبهن بأنهن "أولاد سبت"، فغالبيتهن بنات آباء عمال داخل "إسرائيل"، ولا يلتقون زوجاتهم إلا يوم السبت.
كانت جدتي تجمع بيض دجاجاتها، وتهديه لجاراتها وصويحباتها، وتقليه بزيت الزيتون، لإفطار جدي، ولقطتها حين تلد، وتكسر بيضة طازجة فوق ظهر الوليد الذي لا يكف عن البكاء. واتخذت كثيرات من جمع البيض وبيعه وتبادله مهنة، سواء كان "بيض سبت"، أو "بيض ديك"، أي الذي سيفقس صيصان، حين ترقد عليه الدجاجة ثلاثة أسابيع، فينفقن من هذه التجارة الصغيرة على عائلاتهن، ومازلن يفعلن ذلك، حيث ترسل الأمهات مع صغارهن بقايا الطعام وفتات الخبز إلى الجارات المشهورات ببيع البيض.
كانت جارتنا العجوز تربي دجاجاتها، وتجمع بيضها، وتنزل به إلى السوق، مرة كل أسبوع، فتبيعه وترسل ثمنه لابنها الذي يتعلم في مصر، حتى أصبح طبيباً، وعندما عاد الابن من غربته، أصر على أن يبني عيادته، بجوار قن الدجاج، في بيت أمه. وظل يروي لمرضاه عن البيض اللذيذ الطعم، الصغير الحجم الذي لم تتذوقه أمه سنوات، وهي ترسل ثمنه إليه، وتجعل منه طبيباً.
كتبت في إحدى قصصي عن زوجةٍ كانت تستغل انشغال زوجها في قراءة الجريدة، فتقدم له على وجبة الإفطار كل يوم البيض المسلوق، كأسهل إفطار في نظرها، وكان يتناوله من دون أن يعلق، لأنه يكون مشغولاً بالقراءة، لكنها بدأت تغار من انشغاله بالجريدة عنها، فأخفتها يوماً، ما جعله ينتبه إلى أنه يتناول البيض المسلوق منذ سنوات، وهو الذي لم يكن يحبه قبل زواجه، فأعادت له زوجته الثانية، أي الجريدة، تفاديّاً للمشكلات معه، فعاد يلتهم البيض المسلوق كل صباح.

 

 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.