بولتون الذي لا يبتسم

بولتون الذي لا يبتسم

28 يونيو 2020

ديف جرانلوند (كيغل كارتونز)

+ الخط -
واحدةٌ من هجائيات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مستشاره السابق (أو المطرود على الأرجح)، جون بولتون، أنه لم يره يوما يبتسم. وصرّح، الأسبوع الماضي في مقابلة تلفزيونية، إنه مرّة سأل هذا: ألا تبتسم على الإطلاق، يا جون؟ وللأمانة، ظهر بولتون مرة منشرحا وضاحكا، لمّا كان رفقة رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، في طوّافةٍ فوق هضبة الجولان. ولكن كان على ترامب أن يبلغنا بماذا أجابه جون. لو فعل لربما عرفنا، إذا كنا معنيين بهذه المسألة أساسا، السبب الذي يدفع هذا الرجل، ذا التقاسيم الصقرية، إلى أن يحرص على تقطيبته الدائمة، والجدّية المفرطة على محيّاه، فيما هو يوفّر لقرّاء كتابه، الصادر أخيرا، مادةً وفيرةً مسلية، فيها أسبابٌ كثيرة للترويح عن النفس، وفيها الذي يُضحك، بل في وسع كاتب مسرحٍ موهوبٍ إنتاج عملٍ كوميدي ناجح، مستقى من هذا الكتاب الذي يُغبط من قرأوه (592 صفحة!)، على ما فعلوا.
ولكن ما أوجزته صحفٌ وتلفزاتٌ ومواقعُ عديدةٌ ونقلته من هذا المؤلّف الذي دوّى في الفضاء الإعلامي أخيرا ييسّر أسبابا للتسرية عن النفس، سيما وأن الذي يكدّر المزاج حوالينا ثقيلٌ وكثير. كما أنه يستثير دهشةً غزيرةً مما يقيم في ترامب من جهلٍ في غير أمر وشأن، وأيضا من مقادير الصبيانية والارتجالية الباهظة في البيت الأبيض، على ما قال مسؤولٌ فيه لبولتون لمّا تسلّم منصبه مستشارا للأمن القومي في إبريل/ نيسان 2018. وربما تطرأ على الخاطر أسئلةٌ عن نجاعة الديمقراطية التي يصعد بها شخصٌ من طينة ترامب إلى رئاسة الدولة الأقوى في العالم، ليس من همٍّ لديه، في غضون عمله رئيسا، غير أن يظل رئيسا أربع سنواتٍ ثانية، بل ومدى الحياة إذا أمكن، على ما أفصح مما في جوانحه عن هذا الأمر لرئيس الصين. وتخطر أسئلةٌ أخرى عن تلك المؤسساتيّة، في الدولة الأبلغ نفوذا في الأرض، عندما يصل إلى موقع شديد الحساسية شخصٌ من عجينة جون بولتون، الغبي الممل في هجائية أخرى من ترامب الذي قال إن أميركا كانت ستصير الآن في حربٍ عالميةٍ سادسةٍ لو أنه أخذ باستشارات هذا الرجل.
مضحكٌ أن نقرأ أن ترامب لم يكن يعرف أن بريطانيا دولةٌ نووية، بل ويتحدّث في هذا مع رئيسة الوزراء السابقة، تيريزا ماي. ومضحكٌ أنه كان يعتقد أن فنلندا أراضٍ تابعة لروسيا. ومضحكٌ أن هذا الرئيس يرى غزو فنزويلا عملا جميلا. جيّدٌ من بولتون أنه أخطر قرّاء كتابه، ذي العنوان غير الموفق تماما "كنتُ في الغرفة وحدث ذلك"، بهذا كله وغيره مما يماثله، غير أن الأهم أن المستشار المطرود، والذي لم يؤدّ عمله جيدا، بحسب ترامب، يبقّ بحصةً مهمةً بصدد تعامل هذا الرئيس وإدارته مع إيران، لنعرف أنه يخشاها، ويحسِب كثيرا مفاعيل أي إجراء عسكريٍّ ضدها، فأميركيون كثيرون سيُقتلون لو فعل شيئا ضدها، على ما يرى. ولهذا لم يتخذ القرار بتنفيذ ضربات صاروخية، كانت مقرّرة، على أهدافٍ محدّدة في هذا البلد، بعد إسقاط طهران طائرةً أميركيةً مسيّرةً كلفتُها 140 مليون دولار، في العام 2019. وفي كتابه، يبدو بولتون حريصا على تظهير نفسه كارها لإيران، شجاعا ضدّها، فيما ترامب لا نيّة لديه لردعها عسكريا. وثمّة ما أوضحه الكتاب عن سورية، بلدا متروكا للروس ومن يريدون، مهملا في حسابات ترامب وإدارته، بلدَ رمالٍ وموت. وهنا، يصبح إنفاق جهدٍ ذهنيٍّ لفهم السياسة الأميركية في الملف السوري طبخا للبحص، وقد فعلنا شيئا من هذا لمّا أعلن وزير الخارجية السابق، ريكس تيلرسون، ورقةً تضمّنت نقاطا محدّدة في شأن هذه السياسة، ولو عُدنا، الآن، إليها وإلى ما قيل وانكتب، سوريا وعربيا، عنها، لأصابنا حرجٌ كثير.
مختتم القول، كما أولّه، يجدُر الحذر من قبض كثير مما أسرف فيه جون بولتون تعريضا بترامب، وبتظهير نفسِه أدرى من الأخير بمصلحة أميركا، فليس في أرشيف هذا الرجل ما ينبئ بشيءٍ من المصداقية في شخصه، ولا بقدرٍ من رجاحة العقل. ومن هذا الأرشيف أنه لمّا كان سفيرا لبلاده في الأمم المتحدة، في العقد الماضي، عقّب على مسوّدةٍ لإصلاح الهيئة الدولية من 26 صفحة، طُرحت لنقاش الدول الأعضاء، بـ750 تعديلا، وأول هذا الإصلاح، في عُرفه، أن تصبح إسرائيل عضوا دائما في مجلس الأمن. وقبل ذلك، كان قد سأل عن دواعي وجود الأمم المتحدة طالما أن الولايات المتحدة موجودة.
حقا إنه لا يبتسم، لكنه مضحكٌ لا شك.
358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".