بعيداً في الذكريات

بعيداً في الذكريات

06 ابريل 2019
بيروت الخمسينيات والستينيات في بال كثيرين (Getty)
+ الخط -

في أحيان كثيرة نجد أنفسنا مشدودين بكامل وعينا وخيالاتنا إلى ذكريات بعيدة مررنا فيها. ومهما كانت سيئة عندما حصلت، كأن تكون حرباً وهروباً من معارك ومشقات وأهوال، نجد أنفسنا منقادين إلى تحسين صورتها وصولاً إلى حدّ اعتبارها أفضل مما نعيشه حالياً. هذا "الحالياً" زمن غير ثابت على وقت محدد، بل يتنقل مع تقدمنا سنة بعد سنة، فتبقى المقارنة نفسها، حتى نصل إلى زمن نقارن فيه بينه وبين ذاك الزمن الذي كنا فيه عندما قارنّا في المرة الأولى، فنجد للغرابة أنّ الوضع في هذه اللحظة بالذات أسوأ مما كان عليه يومها. هو منطق غريب، بعض الشيء، إذ كأنّ الأمور لا تسير إلا وفقاً لخط تنازلي محدد، نكون فيه في البدء عند قمة السلّم، ثم ننحدر وننحدر من دون أيّ قاع لهذا الانحدار إلا في وصولنا إلى نهايتنا نحن بالذات.

لكن، هل تلك العودة مرتبطة بنا فقط وبذاكرتنا وما عشناه من أيام سعد وفرح وهناءة وراحة بال وبحبوحة ونجاح كما نفترض ونزيّن عادة؟ أم تخرج الذكريات عن دائرتنا الشخصية لتصادر أحداثاً لم نعرف عنها إلا ممن سبقونا أو مما قرأنا عنه؟

من دون الخوض في فكرة التقمص وعيش ذكرياتنا والأحداث التي مررنا فيها عندما كنّا في حياة، أو حيوات، سابقة، فإنّ الواقع الاجتماعي يركّز على أداة المقارنة بالذات وما تحمل من عدم رضا عن الوضع الحالي كيفما تقدم، وهو نابع من عدم رضا عن الذات في ما حققته وما كان لها من طموحات وأهداف. كثيرون مثلاً يتمنون العيش في عصر آخر، وبعضهم يذهب في التمني إلى زمن ومكان يعيش فيهما مع أشخاص محددين، خصوصاً الأنبياء والأولياء والقادة التاريخيين الكبار والفلاسفة والعلماء. أو ربما يتمنى العيش في عصر الاكتشافات الجغرافية، أو الفتوح العلمية الأولى. قد يكون بعض هؤلاء يحمل ملامح شخصية دونكيشوتية، إذ يريد تلك العودة مع ما يعرفه حالياً أيّ تلميذ ثانوية، كي يبهر ذلك العصر بـ"عبقريته". لكنّ آخرين يريدون فقط أن يجربوا ذلك الزمن الذي قرأوا عنه كثيراً. يريدون أن يرتدوا كما ارتدى أهل ذلك الزمن. يريدون أن يخاطبوا أشخاصه. يريدون أن يستخدموا آلاته وأدواته وتقنياته، ويريدون أن يأكلوا طعامه، ويتنفسوا هواءه ويشموا روائحه وروائح أشخاصه كما يشمّون أوراقاً مصفرّة في كتاب قديم لرواية يريد قارئها أن يكون من بين شخصياتها.




الواقع الاجتماعي نفسه يرجّح ألا يتكيف معظمنا - مع إبقاء هامش - مع ذلك الزمن، في مختلف الحالات، فالتقدم سمة العالم بارتباطه بالوقت والأدوات وكلّ ما يعيشه الإنسان ويحيط به من عناصر، وأيّ محاولة للعودة ما هي إلا انسلاخ عن الواقع؛ واقع هذه اللحظة بالذات، وواقع الذكريات والأحداث في ما كانت عليه في ذلك الحين.

دلالات

المساهمون