بعد عقدين من وفاته.. بورقيبة يسبب انقساماً في تونس(3/3)

بعد عقدين من وفاته.. بورقيبة يسبب انقساماً في تونس(3/3)

20 مايو 2020
+ الخط -
بورقيبة وفلسطين واليهود
خبر بورقيبة فلسطين جيداً قبل النكبة، إذ كانت زيارته لها سنة 1945 فاصلة في حسم قناعاته السياسية تجاه الملف الفلسطيني. يقول صديقه في النضال محمد علي الطاهر: "كان يدرك أهمية قضيتها وفداحة مصيبتها، وقد اطلع على ملابساتها وأسرار نكبتها بنفسه، عندما زارها قبل عشرين عاماً، أي قبل النكبة بسنتين".

زيارته إلى فلسطين رسّخت قناعاته التي تعود إلى سنوات نضاله في تونس جنباً إلى جنب مع يهود تونسيين، منهم من كان عضواً في الحزب الدستوري الجديد، مثل ألبيرت بسيس الذي قاد المفاوضات مع فرنسا سنة 1954 وفيكتور يرانس وأندري باروش اللذين سجنا مع بورقيبة في معتقل رمادة الصحراوي. باروش أصبح وزيراً في حكومة ما بعد الاستقلال لاحقاً. كذلك عمل مع المناضل الشيوعي من أصل يهودي جورج عدة الذي كان رفيق زنزانة لبورقيبة قبل أن يصبح لاحقاً معارضاً له عندما صار رئيساً لتونس.

كوّن بورقيبة رؤية قبل هجرته إلى الشرق تمثلت في التعايش والانسجام بين اليهود والمسلمين وأصبحت تياراً امتد إلى الجزائر حيث برز تيار حركة المنتخبين الجدد المتأثر بالفكر البورقيبي. تمسك بورقيبة بفكرة نزع الصبغة الصهيونية عن الصراع العربي اليهودي. أعجب سيسيل حوراني بفكرة نزع الصبغة الصهيونية عن يهود فلسطين، واصفاً إياها وقتها بفكرة جنينية في رؤية بورقيبة، وكانت جديدة كلياً. سيسيل هو يهودي لبناني حاصل على الجنسية البريطانية، شغل منصب مستشار سياسي للحبيب بورقيبة بعد الاستقلال إلى غاية سنة 1968 وعمل في المجال الفكري والثقافي في تونس لسنوات طويلة. بالحديث عن سيسيل حوراني لا بدّ لسائل أن يسأل عن طبيعة علاقة بورقيبة باليهود في تونس وخارجها؟ وهل كان لذلك تأثير على رؤيته السياسية فيما يخصّ الصراع العربي الإسرائيلي؟

لمّا أكمل الحبيب بورقيبة رحلة الدراسة في فرنسا عاد إلى تونس ومعه زوجته الفرنسية. جمعته علاقة سيئة بمحامٍ تونسي يهودي يدعى أندري شمامة. كان شمامة المحامي الذي أجرى بورقيبة معه أول تربص. لم يدفع الأستاذ شمامة المال الكافي للمتدرب فانتقل إلى مكتب المحامي سيبو، إذ كان منسجماً مع العمل في ذلك المكتب. أمضى بورقيبة أربع سنوات مع سيبو، إذ أضاف سنة واحدة للأعوام الإلزامية للتدريب.


عمل بورقيبة مع سبو وكاتبه الشخصي الذي كان يهودياً تونسياً. أشاد بورقيبة بالجو (الإسلامي - المسيحي - اليهودي) واعتبره مناخ تعايش وثقة وصداقة. كان بورقيبة دائماً ما يتحدث عن العلاقة المميزة بين اليهود والمسلمين في تونس والتعايش السلمي بينهم منذ قرون.

أثبتت الأحداث التي تلت رسو الباخرة اليهودية سارة بتونس سنة 1938 مدى ثقة اليهود ببورقيبة. ضمّت الباخرة وفداً يهودياً قدم للمشاركة في فعاليات ثقافية تحت مسمى الصداقة (اليهودية - الإسلامية)، لكن متظاهرين من الحزب الدستوري بشقيه القديم والجديد خرجوا في مظاهرات ضدّ قيام تلك التظاهرات الثقافية التي كان من فعالياتها بث فيلم حول "أرض الميعاد".

اتهم أنصار الحزبين اليهود بالترويج للحركة الصهيونية لتبرير مطامعها في فلسطين. وبسبب تلك المظاهرات منعت السلطات الاستعمارية ما كان مخططاً تنفيذه من فعاليات يهودية. أدرك يهود تونس خطورة وضعيتهم الجديدة فتوجه قادتهم إلى مكتب الحبيب بورقيبة من أجل المشورة. شجب بورقيبة ما حدث وذكّر بعلاقات الأخوة بين الطرفين، وفي نفس الوقت كانت الفرصة سانحة ليتعرف إلى وفد اللجنة المنظمة. نشر كلام بورقيبة في جريدة "تونس المساء" الصادرة بالفرنسية، وهو ما أخذه أنصار الحزب الدستوري القديم دليلاً على تعامل بورقيبة مع الحركة الصهيونية و"حليف اليهود ضدّ المسلمين".

غضب بورقيبة ورد بأنه ليس كل اليهود صهاينة وليس كل أعلام الصهيونية يتبعون الديانة اليهودية. وبين ذلك بالقول: "لا يوجد تونسي يعتبر فلسطين وطناً له (كذا)، كما لا يعتبر وطنه العراق أو سورية أو الأردن أو الحجاز، مهما كانت الذكريات التي تربطه بالكعبة أو بقبر الرسول!".. "العلاقة بين المسلمين واليهود لم تكن أبداً ودّية مثل ما هي عليه الآن، ولماذا نعرضها للخطر".. "فسروا زيارة الباخرة وإلقاء المحاضرة على أنه تحدٍّ لهم أو تحريض في هذا الظرف بالذات للحوادث الدموية الجارية اليوم بفلسطين!"..

لا يمكن الحكم على علاقة بورقيبة باليهود بمجرد الدفاع عنهم في بعض المواقف. كسياسي ورئيس حزب وقتها كان يريد كسب اليهود التونسيين كحلفاء لحزبه ومناصرين لأفكاره، خاصة لما تميز به اليهود في تلك الفترة من مكانة اقتصادية في تونس ونفوذ لدى الجهات الغربية. بورقيبة أبدى دائماً إعجابه بالنمط الغربي وبالديمقراطية والجمهورية مع أنه تحول إلى دكتاتور في أواسط الستينيات لأسباب متعددة. خطب يوم إلغائه الملكية في تونس قائلاً: "كنت أقدر لو أردت أن أنصب نفسي ملكاً وأجعل لنفسي سلالة حاكمة. لكنني أنا أفضل الجمهورية". راهن طويلاً على مفهوم المواطنة ورفع شعار "الأمة التونسية". بالنسبة له المواطنون سواء في الحقوق والواجبات وعلى الدولة حماية مواطنيها في الداخل والخارج.

وبالرجوع للمسألة اليهودية في تونس نجد بورقيبة يوجه مذكرة احتجاج إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر أثناء العدوان الثلاثي على قناة السويس عندما تعرّضت بعض العائلات التونسية اليهودية للنهب والطرد جاء فيها الآتي: "لا يوجد بالنسبة لي مسلمون ويهود، ولكن تونسيون، وحيث وجب عليّ أن أهتم بهم وأطالبكم بالعمل على رعاية مصالحهم".

إذن، كان موقف بورقيبة من اليهود التونسيين واضحاً ومدافعاً عنهم كمواطنين لهم نفس حقوق باقي التونسيين. غير أن الكثير من المحللين يرون أن علاقة بورقيبة باليهود أبعد من أن تكون محلية بل له علاقات مع يهود العالم عن طريق منظمات يهودية عالمية.

يؤكد الباحث في تاريخ الحركة الوطنية التونسية عبد الجليل التميمي أن بورقيبة جمعته علاقات بالمؤتمر اليهودي العالمي سنة 1957 وهو ما نحت موقفه من القضية الفلسطينية ومن إسرائيل وأن تصريحاته في أريحا والقدس وعمان وبيروت لم تكن وليدة اللحظة بل هي قديمة قدم علاقة بورقيبة بالمؤتمر اليهودي العالمي.

في اعتقادي تعتبر المذكرة المختصرة التي حررها السكرتير السياسي للمؤتمر اليهودي العالمي حول مقابلته للرئيس التونسي وبعض وزرائه بتاريخ 18 يوليو/ تموز 1957 أهم وثيقة يمكن أن نستنتج منها طبيعة علاقة بورقيبة بيهود تونس وفلسفته السياسية في التعامل معهم.

نشر المؤرخ عبد الجليل التميمي هذه المذكرة وهي في شكل تقرير جاء فيه:
"عزيزي ناحوم، تجدون طي هذا مذكرة مختصرة، في انتظار التقرير الشامل حول زيارتي لتونس والتي رجعت منها الآن. لقد كان لي لقاء مطول وودي للغاية مع بورقيبة، سبقته استشارات مطولة مع زعماء الطائفة اليهودية التي تعرف الآن وضعية داخلية دقيقة، أثرت على علاقات الطائفة بالحكومة. وقد ألح بورقيبة على (تونسة) كل المؤسسات اليهودية وغيرها".

إذن كما ذكرت الوثيقة فقد عمل بورقيبة على تونسة كل المؤسسات، بما فيها المنظمات اليهودية التي كانت ترتبط بالخارج، وهو ما أزعج رؤساء الطائفة اليهودية في تونس. وقام بورقيبة بوقف الدعم الحكومي للمنظمات اليهودية ولم يتجاوب مع مقترحات يهودية بفتح حوار حول المسألة اليهودية، إذ فهمت الطائفة اليهودية الإجراءات الحكومية الجديدة على أنها نية لمراقبة اليهود في تونس. يصرح استيرمان، السكرتير السياسي للمؤتمر اليهودي العالمي، بأن بورقيبة أكد له أنه لا نية له في مراقبة الطائفة اليهودية أو التدخل في شؤونها.

لكن استيرمان يؤكد في التقرير أن "السبب الحقيقي لضغينته البينة إزاء هذه المنظمات هو أن زعماءها لم يكونوا فقط من جنسية فرنسية، ولكن لأنهم لم يساهموا في معركة التحرير من أجل الاستقلال الوطني. وإن الذي يثيره أيضاً (فهو سريع التأثر) هو أن بعض القيادات اليهودية وقفت ضدّ حركة الاستقلال واتخذت موقفاً مؤيداً لفرنسا ضدّ التونسيين. وقد صرح بأنه لن يسمح بالاستمرار في هذا الوضع وألح على تعويض هذه القيادات بأخرى تونسية حقيقية، وكان حازماً قطعاً".

يبدو لنا من خلال هذه التصريحات أن بورقيبة الرئيس يختلف عن بورقيبة المحامي والمناضل. وهو رئيس كان يؤمن بالأمة التونسية وهذا لا ينطبق على رغبته في القطع مع الشرق وبعض الموروثات العربية بل يشمل أيضاً إقصاء الجانب الأوروبي من تشكيل الهوية التونسية، إضافة إلى الجانب السياسي، إذ عبر بورقيبة عن مخاوفه من الاستغلال السياسي للمنظمات اليهودية في تونس.

لم تعترف تونس بإسرائيل، لا قبل معاهدات السلام المبرمة مع مصر ومع الأردن ومع منظمة التحرير الفلسطينية ولا بعد ذلك، رغم أن بورقيبة كان أول من نادى بفتح طريق المفاوضات مع إسرائيل.

وبحسب الوزير الأول في حكومة بورقيبة محمد مزالي، فقد كان الرئيس معجباً كثيراً بالولايات المتحدة الأميركية وكان يعتبرها "وطن الديمقراطية والدعوة إلى احترام حقّ الشعوب في تقرير مصيرها".

وقفت الولايات المتحدة الأميركية إلى جانب تونس عندما قصفت فرنسا ساقية سيدي يوسف بالقنابل سنة 1958. زار الرئيس أميركا عدة مرات وجمعته علاقات ممتازة مع جون كندي ورونالد ريغن، وعلى الرغم من هذه العلاقات الجيدة مع الولايات المتحدة، إلّا أن القضية الفلسطينية كانت محلّ خلاف بين البلدين.

كشف مزالي بعض الجلسات مع الرئيس الأميركي ريغن ومسؤولين أميركيين كبار. أراد الوفد التونسي انتزاع اعتراف أميركي بمنظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تعتبرها وقتها عدواً لدوداً لها ولحليفها إسرائيل، حتى إن ريغن وصف الوفد التونسي بأنه يعمل بصدق وجدية من أجل الفلسطينيين، وصرح: "هذه المرّة الأولى التي يرى فيها مسؤولاً عربياً يتحدث معه عن الفلسطينيين سراً كما يتحدث عنهم علناً".

وبعد غزو بيروت سنة 1982 رفض القادة العرب استقبال الفلسطينيين واستقبلتهم تونس ويرجع ذلك لزوجة الرئيس التي كانت من أشد أنصار القضية الفلسطينية. من أهم الجلسات التي كشف مزالي النقاب عنها في كتابه هي تلك التي جمعت بورقيبة ونيكسون الذي كان ممثل الرئيس ريغن، قبل أن يصبح هو نفسه رئيساً، وجاء في المحادثة ما يلي: "السيد الرئيس إنك صديق لبلدنا، ومن أحسن من عرف الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ماذا يمكن أن تفعله الولايات المتحدة للمساهمة في حلّ هذا المشكل؟

- لا أرى شيئاً،
- لماذا؟

رفع بورقيبة صوته وتوترت أعصابه ونهض وصرخ:
- لأن سياستكم أنتم الأميركيون تضبط في تل أبيب لا في واشنطن. خلصوا أنفسكم من اللوبي الصهيوني الذي له تأثير كبير على سياساتكم.

لا يمكن أن ننفي عن بورقيبة انتهاكاته لحقوق الإنسان وقمعه لكل صوت مطالب بالحرية والديمقراطية. لكن في نفس الوقت يصعب وصفه بعميل الغرب والصهيونية لما له من رصيد نضالي زمن الاستعمار وسعيه لبناء تونس بعد الاستقلال، واحتضانه للفلسطينيين يوم رفضهم أغلب زعماء العرب في تلك الفترة.

لن ينتهي الجدال حول بورقيبة في تونس إلا بترك المؤرخين لمراجعة كتابة التاريخ بنظرة علمية نقدية تبرز إنجازاته وتفضح أخطاءه.