بعد عقدين من وفاته... بورقيبة يسبب انقساماً في تونس(2/3)

بعد عقدين من وفاته... بورقيبة يسبب انقساماً في تونس(2/3)

19 مايو 2020
+ الخط -
نضاله
كتب بورقيبة مدافعاً عن الحداثة: "إن الاحتكاك بالحضارات الأكثر تقدماً منّا هو في حدّ ذاته عامل صحي". أدّت هذه النزعة الحداثية التي خلقها بورقيبة داخل حزب الدستور إلى بروز تيار شبابي من الوطنيين الراغبين في التجديد وسط رفض القادة المحافظين، وهو ما دفع بالحبيب بورقيبة لإعلان ولادة الحزب الحرّ الدستوري الجديد في مارس/آذار 1934.

بورقيبة كان دارساً للحركات السياسية والأحزاب في العالم مثل حركات الاتحاد السوفياتي وإيطاليا الفاشية، كما كان ملماً بتنظيم الأحزاب وصعودها في فرنسا، حيث خبر اليسار الفرنسي الذي كانت له علاقة جيدة مع قادته خلال إقامته بفرنسا.

لذلك، تشكل الحزب الجديد على أفكار وتقنيات غربية منها الديمقراطية حيث ترأس الحزب محمود الماطري وانتخب بورقيبة أمينا عاما. واللافت للنظر هو أن بورقيبة كان أصغر قياديي الحزب.

وضع الحزب أهدافاً واقعية ملموسة، كالاستقلال وتحديث المجتمع وتمكين الفئات الهشة اقتصادياً. اختلف هذا الحزب عن غيره من الأحزاب العربية، فهو لا يشبه جبهة التحرير في الجزائر ولا حزب البعث السوري ولا حتى حزب الوفد المصري. كان نهج الحزب الدستوري الجديد في النضال هو التواصل المباشر مع الشعب، حيث حرص القادة الجدد على تمتين العلاقة مع الجماهير من خلال التواصل معهم بلغة بسيطة وإحداث نقابات عُمالية حيث ستصبح فيما بعد الاتحاد العام التونسي للشغل.

لم تمضِ ثلاثة أشهر على تأسيس الحزب الجديد حتى دخل في مواجهة مع المقيم العام الفرنسي الذي استفزته جريدة العمل، وفي خطوة تحدٍ للمقيم العام "دعا الحزب الجديد إلى مقاطعة البضائع الفرنسية والامتناع عن دفع الضرائب وشنّ الإضرابات من أجل إجبار سلطات الحماية على المفاوضات".

رد المقيم العام بعقاب جماعي وذلك بنفي كل الناشطين السياسيين من دستوريين وشيوعيين ومسلمين ويهود، ومنع جريدة العمل. وفي سبتمبر/أيلول 1934، عمّت الاحتجاجات والإضرابات منطقة المكنين، وهو ما أدى بالجيش الفرنسي إلى إطلاق النار على المحتجين وسقط العديد من القتلى والجرحى.


أصاب الاستياء والإحباط قادة الحزب الدستوري، متسائلين عن الجدوى من نكبة مثل ما حدث. غير أن بورقيبة كان يفكر بطريقة مختلفة ويقول لرفاقه: "الآن بدأنا السير على الطريق الصحيح"؛ ففرنسا كان أمامها خياران إمّا القبول بالمفاوضات وإمّا عقاب بورقيبة وحزبه. وبعقابها للدستوريين، تكون قد اعترفت بهم كقوة وطنية. والمكسب الثاني لبورقيبة من إشعاله المواجهة مع السلطات الفرنسية، هو إسقاط تهمة أنه صنيعة الاستعمار التي كان يرددها مخالفوه في الرأي.

واصل بورقيبة أسلوب المقاومة عن طريق كتاباته الصحافية وتحريضه على المظاهرات. وفي 8 إبريل/نيسان سنة 1938، نظّم الحزب مظاهرة ضدّ قمع السلطات الفرنسية، قتلت قوات الاحتلال فيها 200 تونسي. ثارت ثائرة بورقيبة وأشار بألا تدفن جثث الشهداء ونقلهم في الشوارع حتى يراها ممثلو الدول الأجنبية، وأصدر مقالا عنونه بالقطيعة نادى فيه إلى قطع كل حوار مع فرنسا.

يذكر صافي سعيد في كتابه "بورقيبة سيرة شبه محرمة" أن بورقيبة صدم بتلك المجازر، حتى أنه وهو في الزنزانة بعد أن ألقي القبض عليه إثر المظاهرة كان يوبخ نفسه ورفاقه قائلاً: "إنها مصيبة، كيف يموت 200 مواطن تونسي بالرصاص ولا يموت فرنسي واحد؟"، وجهت له عدّة تهم تستوجب الإعدام من أهمها التحريض على القتل والتقاتل بين الأجناس وخرق قانون منع الاجتماعات.

حوالي سنة فيما بعد، دخلت فرنسا الحرب العالمية الثانية، وبسيطرة الألمان على فرنسا وقعت تونس بيد النازيين والمتحالفين معهم من حكومة فيشي. كان بورقيبة ورفاقه في سجن مون لوك في ليون بفرنسا، حيث أصبح يديره الألمان الذين عرضوا على بورقيبة التعاون معهم في تونس. وهنا أبدى بورقيبة دهاءً سياسياً واضحاً، إذ رد بأنه لا يعرف كيف ستسير الأمور "وهذا أمر يخصني".

كان بورقيبة يريد التفاوض مع من سيحسم الحرب لصالحه، فهو مال أكثر لفرضية فوز الحلفاء، بانيا ذلك على عدد الدول المشاركة وتسليحها وخاصة على مؤشرات تراجع الألمان أمام الجيش الأحمر. كذلك كان له موقف سلبي من العقيدة العنصرية النازية.

كان الساسة العرب مقسمين بين من يدعم الشيوعية ومن يميل إلى الدول الاستعمارية ومن أعجب بالفاشية، وبما أن الشيوعية ارتبطت بمعاداة الدين بالنسبة للعرب فضّل القليل الاتحاد السوفياتي ومال البعض للمستعمرين البريطانيين والفرنسيين ولكن النازية والفاشية أغرتا الكثير من العرب والمسلمين.

كان مفتي القدس الحاج الأمين الحسيني والعراقي رشيد علي الكلاني أبرز الداعمين لألمانيا النازية ودول المحور. في هذه الأثناء، أخذ بورقيبة إلى روما حيث اقترحوا عليه موجة إذاعية على ذمته في تونس وحكومة منفى في روما. أعجبته الفكرة، لكنه رفض التعاون مع المحور إلا بشرط إعلان استقلال تونس أولاً.

كان بورقيبة مقتنعاً بأن إيطاليا لها أطماع قديمة جداً في تونس ولن يحرروها من الفرنسيين إلا ليضموها لروما. بعد رجوعه الى تونس من روما، حاول التواصل مع الأميركان لكنهم أبدوا تحفظهم على التعامل معه لعدة أسباب، أهمها علاقتهم بحلفائهم الفرنسيين. لم يجد بورقيبة حلاً هذه المرة سوى الهجرة إلى المشرق العربي.

في القاهرة حيث سيقيم بورقيبة لمدة ست سنوات، التحق بقادة سياسيين من المغرب والجزائر، كان من أبرزهم المناضل المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي. أسسوا لجنة تحرير المغرب العربي وعيّن بورقيبة أميناً عاماً وجاء في بيان التأسيس أن المغرب العربي جزء لا يتجزأ من بلاد العروبة ولا مفاوضات إلا بعد إعلان الاستقلال، وحصول قطر من الأقطار الثلاثة على الاستقلال التام لا يسقط عن اللجنة واجبها في مواصلة الكفاح لتحرير البقية.

وافق بورقيبة على هذا الميثاق وصادق عليه. بدا هذا الموقف من بورقيبة غريباً لأنه يختلف في طرحه مع ما كان يؤمن به الخطابي؛ فمحمد بن عبد الكريم الخطابي رجل كفاح عسكري له ماضٍ نضالي ضدّ الفرنسيين والإسبان ويختلف عن بورقيبة إيديولوجيا.

تُعرَف عن بورقيبة نظرة مختلفة للعروبة والإسلام سوف نتطرق لها فيما بعد. لم يدم التفاهم طويلا واختلف الرجلان حول منهج العمل والأسلوب والتفكير. رأى الحبيب بورقيبة الأسلوب العسكري قد عفّى عليه الزمن. ونادى بالخصوصيات التونسية في المعركة من أجل الاستقلال.

حين أرسل الخطابي طلبة مغاربة إلى العراق وسورية لتسجلهم في المعاهد العسكرية. دافع بورقيبة عن القضية التونسية لدى جامعة الدول العربية في القاهرة وراح ينسج العلاقات مع حكومات دول الشرق الأوسط.

كانت القاهرة بوابته إلى الشرق العربي، حيث تعرف فيها على مفكرين وسياسيين عرب من مختلف التيارات السياسية والفكرية. من القاهرة أيضاً كان بورقيبة يسافر للولايات المتحدة الأميركية للتعريف بالقضية التونسية في الأمم المتحدة.