بعد عقدين من وفاته... بورقيبة يسبب انقساماً في تونس(1/3)

بعد عقدين من وفاته... بورقيبة يسبب انقساماً في تونس(1/3)

18 مايو 2020
+ الخط -
شخصية متناقضة تجمع بين الدهاء والثقافة

تشهد تونس منذ الثورة جدلا كبيرا وانقساما حادا حول مؤسِس الجمهورية الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. وقد تصاعد الجدال في الأيام الأخيرة بظهور الحزب الحر الدستوري، الذي تترأسه عبير موسي التي كانت نائبة رئيس حزب التجمع المنحل حزب بن علي..

وتقول هذه السيدة إنها تتمسك بالنهج البورقيبي، حتى أن صورة بورقيبة تلازمها في كل جلسة من جلسات البرلمان. خرج الصراع الفكري من بين النخب ليصبح شتما وسبا في منصات التواصل الاجتماعي.

فمن هو الحبيب بورقيبة؟
لطالما وصف الحبيب بورقيبة بالمفاوض البارع والرئيس العقلاني أو ذي "المادة الشخمة" كما كان يقول هو عن نفسه ويَقصد بها النبوغ، لكن عندما أتفحص سيرة هذا الرجل أجد نفسي أمام العديد من التباينات في مواقفه وفي تعامله مع الأحداث والأزمات. بورقيبة المحامي المتخرج من كلية باريس للحقوق والمُعجب بفلاسفة الأنوار والمنبهر بالحضارة الغربية الحديثة رفض أن يُدفن الحاصلون على الجنسية الفرنسية من التونسيين في مقابر المسلمين. وعارض محاولات فرنسا تنصير التونسيين عن طريق التبشير.

نظّر الرئيس التونسي الراحل كثيرا للحرية والديمقراطية قبل الاستقلال وبعده، وهو أنهى فترة حكمه مستبدا بالسلطة قامعا لكل معارض له. عذب مئات المعارضين الإسلاميين في السجون وهجرهم، لكنه أعلن الحداد الرسمي عندما أعدم عبد الناصر سيد قطب. كان سباقا إلى تحرير المرأة، وهو من أعطى المرأة التونسية حقوقا منذ أول سنة بعد الاستقلال لا مثيل لها في العالم العربي، لم تتحصل على أغلبها بقية النساء العربيات إلى الوقت الحاضر. كلنا نتذكر ذلك المشهد المتلفز الذي كان الرئيس بورقيبة ينزع فيه الحجاب للنساء في الشارع. هو نفسه الصحافي الشاب الذي دافع عن الحجاب زمن الحماية الفرنسية، واعتبره هوية للمرأة التونسية يُميزها عن النساء الأوروبيات داخل البلاد. سُجن كثيرا ونفيَ عدّة مرات، وخلال الحرب العالمية الثانية حرره النازيون بعد أن سقطت فرنسا ودخل الجنود الألمان تونس طالبين الدعم من التونسيين. وبسقوط باريس، أجمع قادة الحركة الوطنية على دعم ألمانيا رغبة منهم في الحصول على الاستقلال، لكن الحبيب بورقيبة الذي حرره الألمان من السجون الفرنسية اقترح مساندة الحلفاء ضد قوات المحور. كان مفكرا استراتيجييا فاهما لميزان القوى العالمي.


بورقيبة كان قريبا من الفرنسيين والجزائريين في نفس الوقت، مع ذلك خوّنته جبهة التحرير الوطني التي كانت تتخذ من تونس مقرا لها واتهمه قادتها بالتآمر على القضية الجزائرية. أمّا الفرنسيون فقد وجهوا له تهمة تهريب السلاح للمقاتلين الجزائريين وإيوائهم في تونس. جمعته علاقة متينة بملك المغرب الحسن الثاني، ومع ذلك كان أول من اعترف باستقلال موريتانيا رغم مساعي المغرب لضمها له. اختلف مع القذافي ووصفه بأبشع الأوصاف، وفي سنة 1974 وقع معه على وحدة دائمة أقل من يوم واحد ثم ألغاها. بورقيبة الرئيس اتبع سياسة سَمّاها ''سياسة المراحل''، و كان يؤمن بالمفاوضات كأنجع طريقة لاسترجاع الحقوق المسلوبة ورفض العنف. ومع ذلك، فاجأ العالم سنة 1961 عندما دعا متطوعين لتحرير بنزرت آخر قاعدة عسكرية في تونس، وذلك بالهجوم عليها متسلحين بأسلحة بسيطة للغاية.

هرب من تونس إلى مصر على حصان زمن الاحتلال واحتضنته القاهرة، ومنها انطلق ليُعرف بالقضية التونسية في العالم. بعد استقلال البلدين، كان خصما عنيدا للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، إذ اختلفا حول عِدّة قضايا على رأسها القضية الفلسطينية.

أراد بورقيبة أن يقبل العرب بقرار التقسيم أثناء رحلته المشهورة للشرق في ربيع 1965، وعرّض حياته للخطر بسبب ذلك، وعندما أُخرج الفلسطينيون من لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي ورفْض الدول العربية استقبالهم رحب بورقيبة بهم وانتقلت منظمة التحرير إلى تونس.

ونجد بورقيبة في صورة مغايرة لخطابه في أريحا، عندما حمل نفسه وهو شيخ مريض وذهب إلى الرئيس الأميركي رونالد ريغن، مُهددا بقطع العلاقات وتغير السياسة التونسية الداعمة للغرب إن استعملت الولايات المتحدة الفيتو ضد قرار قصف إسرائيل لمواقع المقاومة الفلسطينية في تونس، وقد نجح في ذلك.

وقد أجاد بورقيبة فن الخطابة، وكانت له مواهب مسرحية وأحب الشعر والتاريخ. يقول عنه صافي سعيد: "إنه ليس مجرد زعيم أو رئيس بلاد يخطب في جمهور يتلقى كل شيء عبر الأذن.. وإنما هو أكثر من ذلك بكثير، إنه ساحر يثير الفتنة في كل اتجاه. إنه يعرف كيف يجد العبارة المناسبة وكيف يرميها إلى الناس فتتحول إلى شحنة من النار. يعرف كيف ينغم صوته ويرخمه، كيف يرفع من وتيرته ويوتره، كذلك كيف يسخر فيتلاعب بالألفاظ ثم كيف يروي فيصنع الأبطال والخونة، كما في الروايات الشعبية! كان يتكلم في كل شيء، في شؤون الطنجرة كما في التنظيم العائلي، وفي شؤون الثورات كما في ضرورة المسرح لتربية الأذواق، وفي الأغاني الشعبية كما في الموضة" .. "وفي تاريخ الإسلام" .. "لم يترك مسجدا أو ساحة إلا ووقف فيهما خطيبا". كان يجيد الفرنسية ويحفظ الشعر الفرنسي والعربي.

يذكر محمّد الصيّاح أنه كان يهتم بالشعر العربي والفرنسي؛ "من العرب كان المتنبي على رأس قائمة الشعراء الذين يحبهم. كان يحتفظ بديوانه عنده وكان كثيرا ما يردد على مسامعنا أبياتا من ديوانه يحفظها عن ظهر قلب، ومنها بالخصوص البيت الذي يقول: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم".

ويضيف الصياح أنه أحب امرأ القيس وأبو القاسم الشابي، حتى أنه يبكي عندما يردد قول الشابي "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر". كان يقرأ الفلسفة والسياسة والروايات وكان مهتما بالثورة الفرنسية.

تعليمه

كانت المدرسة الصادقية، رمز الإصلاح والتعليم الحداثي في تونس والتي أسسها المُصلح التونسي خير الدين باشا، أول محطة في مسيرة بورقيبة التعلمية. بعدها درس المرحلة الثانوية في معهد "كارنو'' الفرنسي النظام. وأكمل دراسته الجامعية في مدرسة العلوم السياسية بباريس.

أثناء وجوده في باريس، عُرف عن بورقيبة تطلعه لاكتشاف محيطه وشغفه "بالقراءة والمسرح والأدب والفكر الوضعي الفرنسي وبالقانون والتاريخ والحضارة الغربية". استغل ذلك الطالب التونسي وجوده في باريس ليحضر مناقشات البرلمان الفرنسي ومجلس الشيوخ. يقول بورقيبة في كتابه حياتي وعملي 1929-1933، "لصنع عاقل لا بد من تعليمه وتدريبه على التفكير وتزويده بالمعارف''.

آمن بورقيبة بالعقل وضرورة كسب المعارف المختلفة، وقد حاول دائما استخدام المنطق في التحليل وفهم المسائل الحياتية عامة والسياسية خاصة. وهو ما انعكس على عمله الحزبي الذي بدأه في سن التاسعة عشرة حين التحق بالحزب الدستوري سنة 1922. كان بورقيبة وطنيا مدافعا عن تحديث الحركة الوطنية. تزعم حركة تحديثية داخل الحزب، ووسّع من تأثيره من خلال كتاباته في جريدة صوت التونسي ثم سخّر لذلك صحيفة العمل التونسي التي أسسها سنة 1932.