بعد خيبة مَن ركبوا الموجة الانقلابيّة

02 يونيو 2014

Leontura

+ الخط -

أكثر ما يثير الدهشة في متابعة الموقف الانتخابي المصري هو سجال المُرجفين وخوفهم، إثر خيبة الأمل التي تسلّلت إلى نفوسهم، بعد استماتة إعلامهم في عكس صورةٍ لا تمتّ إلى الواقع بصلة. إذ سرعان ما تكشّفت مراكز الاقتراع عن فراغ رهيب، فلم يحتمل الوصوليون رؤية لجان الجنرال الانتخابية خاوية، فطفقوا يبررون مواقفهم قبل التبرير لولائهم لانتخابات فاقدة الشرعية، حيث زعموا أنّ هذا الخواء بسبب التنظيم والسلاسة، ووقع اللوم على مَن أطلق التقديرات غير الواقعية التي تحدثت عن أصوات 35 و40 مليون مواطن مصري.
يبدو أنّ مقولة "آفة الديموقراطية في بنيها" تتجسّد، هنا. فمَن تشدّقوا وصمّوا الآذان بها هم أول مَن ركلوها، وركبوا الموجة الانقلابية، ليستبدلوا تكليفاً شرعياً ديموقراطياً أخلاقياً بآخر، هو التقيّد بأوامر مرجعية زعامة المشير عبد الفتاح السيسي، ينفذون رغباته حتى قبل أن يرتدّ إليه طرفه، فقد نصّبه القوم شخصية لزعيم روحي، استمدّ الكاريزما من زيّه العسكري، ولم يحتملوا، بعدها، أن يروه من غير الكاكي وسطوته. بل زادوا على ذلك بأن خدموا مواقفه نيابة عنه، أكسبوها جرأة، وزادوا من حجم الصلاحيات، ووسّعوا رقعتها، بل تغنّوا برفعة مستواه الأكاديمي ووضعه الاجتماعي، ولكن ذلك لم يزحزح من صورته غير الشرعية قيد أنملة.
ليس من المنطق التباهي بالدفاع عن الحرية، والمنادون بها مكبلون بمعتقدات القرون الوسطى، فلو أنهم راحوا ينظرون من ثقب عبارات معلّبة يتداولونها في تعامٍ عن الحق، وحدٍّ من حرية التفكير، ناهيك عن حرية التعبير، لوجدوا أين تكمن بالضبط معاني الحرية والديموقراطية التي يستصرخونها، وهي تأبى أن تأتي صاغرة.
ليس الحديث عن هذه الشخصيات المتحولة موسمياً، والتي تتزاحم سيرتها في الإعلام من دون دور حقيقي، فحسب، وإنّما كذلك عن الإعلام الذي يحركها، وينحاز بأدواته إلى نتيجة واحدة هي مثلما فُرض ترشيح الجنرال نفسه في منافسة ظله الوحيد، سيتم فوزه بنتيجة محسومة مسبقاً. أسئلة كثيرة، تحتاج الإجابة عليها إلى تأويلٍ يمكّن المتابع من رؤية الأشياء كما هي، لا كما يريد أصحاب الأجندة الذين غابت أدوارهم الحقيقية، وتبدّت حبكاتهم التمثيلية التي عُهِد إليهم بها. وحتى تكتمل الصورة والتشكيلة المعينة، كالوا اللوم على الداخل الممتنع عن التصويت، وهرعوا إلى إقناع الرأي العام العالمي الذي يعوّل عليه المشير، في تكليفه الجديد بالقضاء على الخصوم.
ومن أجل ذلك، وقفت الإدارة الأميركية فجأة متحسسة مبادئها، فدانت انقلاب تايلاند الأخير، بينما ما زالت تؤيد، من طرف خفي، انقلاب مصر. يتجلى التناقض بين تمسك العالم الأول بقيمه في الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، ومصالحه في آن، في وقوفه، في الوقت نفسه، ضد مؤسساته البحثية التي أثبتت أن أقلية ضئيلة من المصريين تؤيد السيسي، بينما تستنسخ هذه القلة من أوهامها كثرةً مدّعاة.

 
ولعلّ أبلغ تعبير عن هذا النموذج الفريد في ادعاء الكثرة، ما جاء على لسان راوٍ يصف فرقة حسب الله الشهيرة في الأفراح الشعبية، خصوصاً لكل مَن شاهد الأفلام المصرية القديمة، فقد كانت قيمة أهل العريس تُقاس بعدد أعضاء هذه الفرقة، وكلما كثر العدد كان ذلك مدعاة للفخر والحسب والنسب. ولما كان العازفون الحقيقيون في الفرقة لا يتجاوزون أصابع اليدين، في أفضل الأحوال، فإنّ المتعهد كان يلجأ إلى حيلة بارعة، إذ كان يذهب إلى المقاهي، لينتقي منها العاطلين من العمل، يقدم لهم الملابس المعدّة لأعضاء الفرقة، كما يقدم لهم الآلآت الموسيقية، ويدخلون في الفرقة الأساسية، ويقومون بتمثيل أدوارهم التي تقتصر، في الأغلب، على مسك آلات النفخ والطبل. وكانوا يرتدون ملابس ملونة، مقاساتها غير مناسبة لأجسامهم، لا يعزفون شيئاً، ولا يقدمون نغمة، لكن دورهم أصبح أساسياً ومعترفاً به، يعرفه الناس بقولهم: "فلان لابس مزيكا"، أي ليس موسيقياً، لكنه فقط يرتدي ملابسها. وهذه هي الملايين المُدّعاة، لم يمسكوا آلات النفخ والطبل فحسب، وإنما مسكوا العصا من أوسطها.
أما السيناريو الحقيقي غير المتوقع، فقد أوجده الشعب المصري الحرّ، فأضعف الإيمان كان في مقاطعة الانتخابات، ولولا ثقة الشعب، الذي أقام الدنيا في 25 يناير، بنفسه وخياراته، لما كان كل هذا الصمود أمام يدٍ تمدُّ إغراءً باليمين وتقهر باليسار. فلم يُلنِ القهرُ العزائمَ التي وقفت أمام الوصوليين الذين بدّلوا جلودهم عشرات المرات، خوفاً على مواقعهم، وتوهماً لنصرٍ يجيء من وراء غبار "البوت".
إن كانت المعركة الانتخابية الوهمية تدور، الآن، بين المشير وظله، بحثاً عن صوت في ركام الصمت المريب، فإنّ معركة الغد ستكون بين الشعب وحكومة الاستبداد، رفضاً لتكرار تجربة المجرّب، المنشطر عن كيان مولود عنوةً، لا يحمل في جعبته غير التلويح بأنّ الانضمام إليه هو الوسيلة الوحيدة لضمان صكوك الحياة. أما التجربة الأجدر بالاتباع، فهي أنّ هناك وسائل أخرى لجعل صوت الشعب مسموعاً، وهي أنجع، وكاستبانة الفرق بين مَن يسند ظهره إلى كرسي السلطة ومَن يسنده إلى "سُفّود" النضال.

 

 

 

8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.