بستان من الفرح
بستان من الفرح
لم أنسها، لكني كنت خائفةً من الاتصال بها، لتخبرني أنها لا تزال تعيش وحيدةً في بيتها، على الرغم من القصف والغارات، ولا تجد من يؤنسها ويشد من أزرها، ويدلها على المكان الأكثر أمناً، للاختباء في فيلتها الواسعة من طابقين. وكنتُ، قبل الحرب، أخشى أن أهاتفها، فلا ترد، فتكون قد ماتت، من دون أن يشعر بها أحد، فهي وحيدة منذ عشر سنواتٍ بعد وفاة زوجها. وحيث لم تنجب أبناءً، اعتادت الوحدة، وصار منظر فيلتها لمن يمر من أمامه مثل البيوت القديمة التي أسهب في وصفها كاتب المغامرات البوليسية، محمود سالم، العشب الجاف في الحديقة، والذي يطلق صوتاً مخيفاً حين تدوسه، والقطط الضالة التي تستوطن الحديقة، أيضاً، ولا تكف عن العراك لأي سبب، فالمهم أن تصدر مزيداً من الرعب.
جازفت واتصلت بها، فجاءني صوتها مرحاً، مشوباً بضوضاء كثيرة، تطغى على وضوحه، فسألتها عن شخصيتها لأتأكد منها، فأجابتني بأنها هي بشحمها ولحمها، ولكن بعد التغيير.
قرّرت أن تستضيف في بيتها عائلات نازحةً وهاربةً من جحيم الحرب على الحدود، ولم تسأل كثيراً عنهم، وفتحت بابها لهم، حين كانوا يجرون حفاة في الشوارع، بحثاً عن الأمان، أدخلتهم إلى الطابق الأرضي من فيلتها الفخمة، وأعطتهم حرية التصرف بها، كأنهم أصحابها.
حياة وحركة وأصوات صغار، يخافون حيناً ويضحكون حيناً، ونساء يتحدثن في مواضيع كثيرة، ويروين لها القصص والحكايات، كيف فررن من القصف من قرية خزاعة، وكيف خدعهم جنود الاحتلال، أَول مرّة، حين طلب منهم الخروج من بيوتهم، أول مرّة، رافعين الرايات البيضاء، وظلوا يجرون في الشوارع، حتى وصلوا إلى مدخل المدينة، ليطالبهم صوتٌ بعربية ركيكة، من مكبر الصوت، أن يتحدث أحدهم نيابة عنهم. وحين تقدم أحد الشباب من الدبابة، معلناً أنه المتحدث عن عشرات النازحين، لم يعطوه الفرصة، ليعرف ما يريدونه منه، فأطلقوا عليه رصاصةً، أصابته في جبينه، وهكذا بدم بارد، وكان ذلك إيذاناً للفارّين بالتكبير، والجري على غير هدى، تحت وقع القذائف وقصف الطائرات.
تذكّرت أن لديها كمية كبيرة من "العجوة" التي صنعتها من بلح نخلة الحديقة، فطلبت منهن أن يعددن كمية من الكعك للصغار، وقمن بتنظيف الحديقة من العشب الجاف، وصنعن أكثر من أرجوحة، في ظل شجرة برتقال وشجرة ليمون.
الفيلا الساكنة أصبحت تضج بالحياة من الداخل، فيما يتربص بها الموت من الخارج، لم تبخل عليهم بمالها، حين عرفت أنهم فقراء، وخرجوا لا يحملون سوى خوفهم. بدأوا، جميعاً، ينادونها بأسماء، تمنتها كثيراً، فبعضهم يناديها "ماما"، وآخرون ينادونها "تيتا"، أي الجدة.
حسب "أونروا"، بلغ عدد النازحين واللاجئين في الشهر الأول من العدوان على غزة 475 ألف، واستقبلت مدارسها 254 ألف نازح ولاجئ، أي أن نحو 231 ألف شخص لجأوا إلى بيوت أقارب ومعارف وأصدقاء، وكثيرون منهم فتحت لهم بيوت، لا يعرفون أصحابها، فأصبحوا لهم نعم الأهل، واقتسموا معهم لقمة العيش وجرعة الماء، وكثيرون منهم ماتوا، بعد أن هدمت بيوتهم فوق رؤوسهم، فاستشهد صاحب البيت مع ضيوفه.
أجمل ما حدث معها وهي تحدّثني، وبالكاد أسمع صوتها من صوت الصغار حولها، وقد قطعت حديثها مراتٍ، لتنهر طفلاً بحنان، لكيلا يقترب من الموقد، وتطلب من آخر أن يكمل شطيرته، ولا يلقيها جانباً، فأجمل ما حدث حين داهمت آلام المخاض إحدى النساء اللاجئات لبيتها. تقول: تمنيت أن يعلو صوتي ألماً من مخاض، لكن إرادة الله لم تمنحني هذه التجربة. وحين انطلق صوت الوليد، وتردّد بين جنبات الفيلا، شعرت بأن هذا الوليد خرج من رحمي، فطالما تمنيت أن أسمع غير صوت أنيني من المرض والوحشة، فهناك صوتٌ للحياة انطلق في بيتي، وهذا أقصى ما تمنيت.