بريمر المسؤول ... أولاً وأخيراً

لعلّ البذرة الأولى التي زرعت في أرض العراق بعد احتلاله، وأسهمت، لاحقاً، في شرذمته، تحت مسمّيات الصراع من أجل السلطة، تمثلت في الدستور الذي وضعه الحاكم الأميركي للعراق، بول بريمر، والذي أدار البلاد بين مايو/أيار 2003، إلى يونيو/حزيران 2004.
وقد شكل هذا الدستور شرخاً في الوحدة الوطنية العراقية، وأسّس لحالة من عدم الاستقرار، وعزز الاصطفافات المذهبية، لا بل عمل على نقل الصراع من طابعه السياسي إلى واقع مذهبي وطائفي وعرقي خطير، يشبه الصراع الدائر منذ عقود بين مكونات الدولة اللبنانية.
لذا، يجب التروي في الاعتقاد بأن رئيس الوزراء، نوري المالكي، هو الذي يتحمل كل المسؤولية، إذ يتم تعظيم دوره، واعتباره طائفياً وعنصرياً، وشعوبياً، وفارسياً، ونحن، هنا، لا نحاول تبرئته من شيء، لكن، نحاول الإشارة إلى تعظيم دوره، مع أنه ليس إلا حلقة من متوالية سابقة له، تؤدي الدور الموكل إليها، حتى تتم مخططات بريمر على أكمل وجه.
الحريّ بمن يتناول الشأن العراقي الحالي أن يتوقف عن محاسبة الواقع، رافضاً النظر إلى الأسباب التي أدت إلى إنتاجه. فمنذ اليوم الأول لاحتلال بغداد، في التاسع من إبريل/نيسان 2003، وأميركا تمارس دوراً تفتيتياً، أسهم في رسم الطريق لتقسيم العراق لاحقاً، وإلا كيف لنا أن ننظر إلى قرار حل الجيش العراقي، المكون من أربعمائة ألف جندي، الذي تحول إلى مجاميع مقاومة، بعدما شعر بالغبن والتهميش، ليتّحد طيفٌ منه فيما بعد مع تياراتٍ جهادية، ويشكل تهديداً أصيلاً للمالكي، وحلفائه داخلياً وخارجياً.
في المقابل، لماذا لم نر هذه الجوقة، يعترضون على مفاعيل المندوب الأميركي السامي، بول بريمر، عندما عاث فوضىً في قلب العراق، خصوصاً بعدما أقر دستور المحاصصة الطائفية، مما شكل نواة لانتشار الاحتجاجات الشعبية، وبعد ذلك المعارضة الطائفية المتطرفة.
لقي الفعل البريمري تشجيعاً وترحيباً عربياً، لم يعترض عليه أحد، إذ يقول بريمر: "يجب إقامة نظام سياسي جديد، وهذا لا يتطلب تجريد معظم المقاتلين من أسلحتهم فقط، وإنما كذلك خطة لتحديد إطار سياسي يبنى عليه نوع من الحكم التمثيلي".
لذا، يبدو من المستهجن المطالبة برحيل المالكي، واستبداله بآخر، من دون المطالبة بهدم دستور بريمر، ونفيه كلياً، لأنه أساس الداء.
لا أعتقد أن المشكلة، اليوم، محصورة فقط ببقاء نوري المالكي أو برحيله، ولا أعتقد أن المشكلة تنتهي برحيله، إذ أن المصائب في قلب العراق أعمق بكثير، ولها علاقة بالحقوق المغتصبة على يد فئات لن ترحل برحيل رئيس الوزراء الحالي، ولا سيما وأنها مستقلة مالياً وتنظيمياً، وبقراراتها، وأفعالها، ورؤيتها عن المالكي، وحكومته المصابة، منذ تشكيلها الأول، بعاهة دائمة، والمعرضة للوأد في أي لحظة. هذه الفئات مدعومة بالمليشيات المسلحة ذات الأصولية الدينية، وتتبعها أحزاب، لها سطوتها، وسلطتها على الدولة، ومن خلفهما مراجع دينية تأمرُ فتُطاع.
بماذا اختلف العراق، منذ احتلاله. قاده إياد علاوي وإبراهيم الجعفري، ألم تكُن النتيجة واحدة، خلفت عنصريات قاتلة، وسمنت هويات متصارعة، وأحزاباً إرهابية، وإقطاعيات محروسة بجيوش مدربة.
كانت المشكلة، ومازالت، تنحصر في الولايات المتحدة، وتدخلاتها، والتي دفعت إيران وهيأتها للتدخل، منافساً على الساحة العراقية، في حين رفضت الأطراف العربية الدخول، والوقوف في وجه إيران.
لو فكرت الأنظمة العربية لحظة، ووقفت بوجه التدخلات الأميركية في العراق، لما تجرأت إيران على التدخل بهذا الشكل الصلف، ولتوقّف، أو خُففَ الأذى الأميركي للعراق.
المشكلة كانت، وماتزال، تتعلق بواشنطن وأفعالها، وبذور الفرقة التي زرعتها بين مكونات الشعب العراقي الذي تريده بلا هوية وطنية جامعة. هذه المشكلة لن تنتهي بمجرد إعلان الرئيس الأميركي، باراك أوباما، إرساله ثلاثمائة مستشار عسكري إلى الحكومة العراقية، أو طائرات بدون طيار، أو حتى بطيار، لدعم قوات المالكي، في معركتها مع الهبّة ضدها، ومع الدولة الإسلامية التي باتت تسيطر على مساحاتٍ شاسعة من العراق وسورية.
إن حلّ معضلة العراق الحالية، لابد أن يبدأ بإلغاء دستور بريمر، واستبداله بدستور آخر يجمع المكونات العراقية حسب المواطنة، لا حسب الديانة أو الطائفة أو القومية. أمّا بقاء الصورة على هذا النحو، فإن مشهد التفتيت والتشظي العراقي قابل للتطور، والاتساع والامتداد.