بريطانيا ترفض الاعتذار عن بلفور

بريطانيا ترفض الاعتذار عن بلفور

01 نوفمبر 2017
وقفة احتجاجية تطالب بريطانيا بالاعتذار (عصام ريماوي/الأناضول)
+ الخط -
حمل الوعد الذي قطعه وزير خارجية الحكومة البريطانية آنذاك، آرثر بلفور، لممثل اليهود في بريطانيا، ليونيل روتشيلد، العديد من الإشكاليات الناجمة عن ظروف إطلاقه. فحمل الوعد الذي لا يتجاوز نصه 67 كلمة بين معانيه الخطط الإمبراطورية البريطانية، وبروباغندا الحرب، ومعاني إنجيلية وعقلية استعمارية بالإضافة إلى تعاطف مع العقيدة الصهيونية. وهو ما يعكسه القول "إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي". وتضمن الوعد شرطين أولهما "لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين". والآخر "ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر". 

ويرى العرب والصهاينة بلفور إما كـ"أساس الشر" أو كـ"بطل قومي"، ويتفق الطرفان أن وعده كان البذرة التي انطلق منها النزاع الذي لا يزال يؤرق المجتمع الدولي حتى الآن. فعدا عن أن الوعد صدر عن وزير الخارجية البريطاني عندما كانت فلسطين لا تزال جزءاً من الدولة العثمانية، فإن الانتقاد الرئيسي الذي يوجه لهذا الإعلان هو الإخلال بالشرط الأول: أي حقوق غير اليهود المقيمين في فلسطين. وقد تجاهل بلفور أن هذه "الطوائف من غير اليهود" كانت تشكل حينها 90 في المئة من عدد سكان فلسطين. كما تجاهل صاحب الوعد ذكر أن سكان فلسطين من غير اليهود كانوا من العرب والمسلمين والمسيحيين. وتجاهل صاحب الوعد أيضاً استشارة الأغلبية العظمى من أهل فلسطين حول مستقبلهم أو مستقبل أرضهم.


ومع حلول الذكرى المئوية للوعد، تطالب العديد من الجهات الفلسطينية، الرسمية والشعبية، ومعها العشرات من المنظمات العالمية المتضامنة مع الحقوق الفلسطينية، بريطانيا بالتكفير عن خطيئتها الأصلية بالاعتذار للشعب الفلسطيني عن المآسي التي تسببت بها بحق الفلسطينيين، لاسيما أن وعد بلفور أصبح جزءاً من سياسة الانتداب البريطاني في فلسطين، وجزءاً أصيلاً من مواثيق الأمم المتحدة وقراراتها الخاصة بالقضية الفلسطينية.

فقد قالت البعثة الفلسطينية في المملكة المتحدة، في رسالة إلى لجنة العلاقات الخارجية في مجلس العموم الذي كان يقيّم السياسة الخارجية البريطانية في الشرق الأوسط في إبريل/ نيسان الماضي، إن "الذكرى المئوية... تسمح لنا بالنظر إلى هذا التاريخ الطويل. واقعنا الحالي هو نتيجة للسياسة البريطانية التي خلقت إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني".





الرأي العام البريطاني

كما نظم "مركز العودة الفلسطيني"، الذي يتخذ من لندن مقراً له، حملة إلكترونية لجمع التواقيع تطالب بريطانيا بالاعتذار للفلسطينيين عن وعد بلفور في ذكراه المئوية. "حملة الاعتذار عن بلفور" طالبت بريطانيا بالتعويض عن جرائمها الاستعمارية في فلسطين. وقد صرح طارق حمود، مدير المركز، لـ"العربي الجديد" بأن "حملة الاعتذار بدأت نهايات العام 2012 من قبل مركز العودة الفلسطيني، وتبنت مشروع الضغط على الحكومة البريطانية لتقديم اعتذار رسمي للفلسطينيين عن وعد بلفور كجريمة استعمارية"، وأضاف "هذه الحملة أخذت ذروتها من خلال العريضة التي أطلقها المركز في العام 2017 لجمع تواقيع من المواطنين البريطانيين لمطالبة الحكومة بالاعتذار، وقد نجحت العريضة في تأجيج شريحة مهمة من الرأي العام البريطاني حيث وصل عدد الموقعين في أول شهرين إلى 13 ألف موقع، وبحكم القانون فإن الحكومة ملزمة بالرد في حال حصلت العريضة على أكثر من 10 آلاف توقيع."


وكان الرد البريطاني الرسمي على العريضة، التي وقعها أكثر من 13,600 شخص، والتي وجهت إلى البرلمان البريطاني في أبريل/ نيسان الماضي، أنها ترفض الاعتذار عن وعد بلفور. وجاء في الرد أن "إعلان بلفور وثيقة تاريخية لا تنوي الحكومة البريطانية الاعتذار عنها. نحن فخورون بدورنا في إنشاء دولة إسرائيل". وترى الحكومة أن الوثيقة نتيجة عهد إمبراطوري خلا، وأن الاهتمام يجب أن ينصب حالياً على "التطلع إلى الأمام وإنشاء الأمن والعدل للإسرائيليين والفلسطينيين من خلال سلام دائم".

وعلى الرغم من توقع المركز لهذا الرد، فإن هدف الحملة، كما يقول حمود، هو التركيز "على الرأي العام البريطاني وتوعيته ليكون هو أول أدوات تصحيح الخطأ التاريخي الذي ارتكب بحق شعب لديه الحق الكامل في أن يعيش كبقية الشعوب."

حيث إن رد الحكومة البريطانية وللمرة الأولى، كما يرى حمود، أقر بأن وعد بلفور اعتراه نقص في حماية الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني. "هذه الجزئية تمثل اعترافاً ما من قبل بريطانيا بأنها ساهمت في الانتقاص من الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني وهو أمر يمكن البناء عليه في المستقبل خصوصاً لو تضافرت الجهود الرسمية وغير الحكومية الفلسطينية".




عبء تاريخي

وتبرز عدة أسباب وراء رفض الحكومة البريطانية الاعتذار عن هذا الوعد المشؤوم. فقد كان وزراء بريطانيون قد أخبروا السفير الفلسطيني لدى بريطانيا، مانويل حساسيان، أن الاعتذار عن وعد بلفور سيفتح الباب أمام العديد من المطالب الأخرى التي تعود إلى العهد الإمبراطوري البريطاني. فإرث بريطانيا الاستعماري لا يقتصر على الشرق الأوسط فحسب، بل يمتد إلى مناطق أخرى مثل قبرص وكشمير وجنوب أفريقيا وغيرها من مناطق النزاع الحالية في العالم.
يضاف إلى ذلك تبرير الحكومة بأن إعلان بلفور وعد تاريخي "لا يمكن تقييمه كلياً وتقييم ما تبعه إلا من قبل المؤرخين"، رغم أن المؤرخين يعزون الوعد إلى السياسة الاستعمارية البريطانية المبنية على مزيج المصالح البريطانية والعقيدة الإنجيلية التي سادت حكومة لويد جورج خلال الحرب العالمية الأولى. فقد كان الخوف من الثورة البلشفية، والرغبة في التفوق على فرنسا في بلاد الشام، وحماية مصر التي كانت تحت سيطرتهم حينها، إضافة إلى حماية طريقهم إلى الهند الذي يمر بقناة السويس، جميعها أسباب دفعت البريطانيين لدعم إنشاء كيان يهودي موال لبريطانيا في المنطقة. أضف إلى ذلك أن "وعد بلفور" جاء ضمن حزمة وعود صدرت عن الحكومة البريطانية لاستمالة جميع الأطراف لصالحها، ومنها اتفاق "سايكس بيكو" لإرضاء فرنسا وروسيا، والوعود التي قطعت لصالح الشريف حسين لاستمالة العرب.


وتلعب التحولات السياسية الأخيرة دوراً في موقف الحكومة البريطانية الحالية، وأهمها تصويت بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، ووصول دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية. فقد جلب استفتاء "بريكست" عام 2016 تغييراً هاماً في مكانة بريطانيا عالميا، وهو ما يستدعي من حكومة تيريزا ماي إعادة تموضعها عالمياً، وهو ما دفعها إلى الاقتراب من موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وكان انتقادها لقرار مجلس الأمن 2334، الذي أصر على عدم شرعية المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، والذي جاء بضغط من الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، محاولة منها لاسترضاء ترامب.

كما تحاول ماي بناء علاقات وثيقة مع الدول الحليفة من خارج الاتحاد الأوروبي، ومنها دولة إسرائيل. ولذلك قامت ماي بتوجيه الدعوة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى حفل عشاء في لندن بهدف إحياء الذكرى المئوية لوعد بلفور.

وترفض بريطانيا الاعتذار عن وعد بلفور، وفقاً لحمود، لسبب متعلق بمعايير سياستها الخارجية التي لاتزال منحازة وبشكل سافر لصالح الاحتلال. ويقول مدير "مركز العودة الفلسطيني": "حكومة المحافظين اليوم تعبر عن اليمين السياسي الذي يجد نفسه في الممارسات العنصرية لكيان مثل إسرائيل. ولذلك الرفض كان متوقعاً بالتأكيد والحملة اتخذت الاعتذار بوابة لوضع الحكومة في زاوية الإقرار الرسمي بانحيازها لصالح إسرائيل، وهو موقف يمكن أن يثير تساؤلات الرأي العام من خلال المفارقات التي يرسمها أمام الجمهور والجيل الجديد الذي بات يرفض العودة للوراء ولحقبة الاستعمار ويطالب بالعيش في عالم جديد تسوده العدالة والحقوق الإنسانية".

وفي وجه هذا الرفض من الحكومة البريطانية للاعتذار عن وعد بلفور يتساءل البعض عن جدواه. فالقنصل البريطاني العام في القدس، فيليب هول، يرى أن اعتراف بريطانيا بفلسطين أشد أهمية من اعتذارها. ويقول: "الاعتراف يعني أنه عندما يتقدم عباس (الرئيس الفلسطيني) أو كائناً من يخلفه إلى عضوية كاملة في الأمم المتحدة، فإن بريطانيا ستصوت بنعم". ويرى هول أن هذا الأمر قد يدفع دولاً أوروبية أخرى لاتخاذ الخطوة ذاتها، ويعكس لإسرائيل وجود عواقب لخرقها للقوانين الدولية.