بريطانيا اليوم... هل هي نفسها التي أعلنت وعد بلفور؟

بريطانيا اليوم... هل هي نفسها التي أعلنت وعد بلفور؟

02 نوفمبر 2017
تحولات عدة طرأت على الرأي العام البريطاني (Getty)
+ الخط -
"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى". 

بهذه الكلمات بدأت مأساة فلسطين قبل مائة عام. وعد تقدم به وزير خارجية الحكومة البريطانية حينها، اللورد بلفور، إلى اللورد روتشيلد، زعيم الجالية اليهودية البريطانية. وعد صدر عن الحكومة البريطانية في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 1917، قبل نحو شهر من دخول القوات البريطانية إلى فلسطين في الحادي عشر من ديسمبر/ كانون الأول. وعد بريطاني بمنح أرض عربية تحكمها الدولة العثمانية للحركة الصهيونية الباحثة عن وطن قومي لشعبها اليهودي.


ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى، منحت عصبة الأمم بريطانيا حق انتداب فلسطين عام 1920، وجرى دمج وعد بلفور ضمن شروط الإدارة البريطانية لأرض فلسطين. لم يبدِ بلفور أي ندم على وعده ذاك، إذ قال لزميله في الحكومة، اللورد كرزون، إن "الصهيونية، سواء كانت على حق أم باطل، جيدة أم سيئة، جذورها ضاربة في تقاليد قديمة، وحاجات حالية، وآمال مستقبلية وذات أهمية أكبر من رغبات وتحامل 700 ألف عربي يعيشون في تلك الأرض العتيقة".

وبالفعل سادت هذه الرؤية، ولا تزال حتى يومنا الحالي. فالمطالب الفلسطينية لم تعامل ولا تُعامل بطريقة مساوية للمطالب الصهيونية. وهو ما أشار إليه البروفسور الفلسطيني في جامعة أوكسفورد، أحمد الخالدي. الاستيلاء البريطاني على فلسطين جاء ضمن سياسة استعمارية يسودها التفكير العنصري، والذي يرى تفوق بعض الأعراق على البعض الآخر، مدللاً على كلامه بتصريحات ونستون تشرتشل للجنة بيل خلال الانتداب البريطاني، إذ قال حينها إن العرق الأسمى يمتلك ادعاءات أقوى، مشبهاً الاستيطان الصهيوني في فلسطين، بالاستيطان الأوروبي في أميركا وأفريقيا.
وهذا العام يكون قد مضى قرن من الزمان على ذلك الوعد المشؤوم. بعد مائة عام نرى الوعد البريطاني بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين قد تحقق، وإن كان على أنقاض 700 ألف من "الطوائف غير اليهودية".

الشعب الفلسطيني الذي غاب بأوصافه العربية أو المسلمة أو المسيحية عن وعد بلفور، ليختزل بكونه "جميع الآخرين من غير اليهود"، تحضره المآسي بين احتلال ولجوء وتمييز عنصري في أرضه وفي المنافي.
إلا أن الحكومة البريطانية المحافظة، التي ترأسها تيريزا ماي، لم تر عيباً في إحياء (ويلاحظ أنها لم تقل الاحتفال) الذكرى المئوية "بفخر". بل إنها استجابت أيضاً لدعوة اللوردين بلفور وروتشيلد الحاليين لحضور عشاء في هذه المناسبة، وبحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. كما كان رد الحكومة البريطانية على المطالبة بالاعتذار عن وعد بلفور بأن "إعلان بلفور وثيقة تاريخية لا تنوي الحكومة البريطانية الاعتذار عنها. نحن فخورون بدورنا في إنشاء دولة إسرائيل".

تظاهرة داعمة لفلسطين أمام داوننغ ستريت (Getty) 



يشرح العضو في مجلس اللوردات، النائب سابق في حزب العمال، نورمان وارنر، في حديثه مع "العربي الجديد"، موقف الحكومة البريطانية الحالية من فلسطين. يرى ورانر أن هناك مواقف عدة بين السياسيين البريطانيين من مناصرة الفلسطينيين.
فالحكومة البريطانية تمتلك موقفاً ثابتاً من القضية الفلسطينية خصوصاً في العقدين الماضيين، وتقف مباشرة خلف موقف حليفها الأميركي، الذي احتكر القضية الفلسطينية على المستوى الدولي منذ مباحثات أوسلو، وفقاً للأخضر الإبراهيمي، المبعوث الأممي السابق.
ويضيف وارنر أن رؤية الحكومة البريطانية للحل في فلسطين تعتمد على دولتين لشعبين، إذ تولي فيه الأهمية لأمن إسرائيل، وبالتالي ترفض دعوات المقاطعة التي تتنامى يوماً بعد يوم. ويعتقد وارنر أن الحكومة البريطانية المحافظة الحالية غير قادرة على الاعتذار عن وعد بلفور، ولا الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

ومما فاقم الأمور حالياً دخول بريطانيا في دوامة بريكست، الذي يستهلك عملياً ساحة النقاش السياسية، ويترك مساحة ضئيلة لأي شيء آخر. وبالنسبة لوارنر، فإن عدم وصول أي قانون إلى مجلس اللوردات من مجلس العموم في الوقت الراهن، لا يعكس إلا حالة الشلل السياسي الذي يصيب السياسة البريطانية.
ويضاف إلى ذلك أن وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، وعوضاً عن أن يركز على وضع بريطانيا الدولي، ينخرط بشدة في النزاعات الحكومية والحزبية الداخلية، في محاولة منه لتسيير بريكست وحزب المحافظين.
أما مجلس اللوردات، وهو الغرفة العليا من البرلمان البريطاني، بمجمله داعم لإسرائيل ومعتنق لرؤيتها. ورانر، الذي قضى عشرين عاماً في المجلس، يرى أن المخاوف من الاتهام بمعاداة السامية تؤدي دوراً كبيراً في دعم اللوردات لدولة الاحتلال، إذ يستخدم اللوبي الموالي لها هذه التهمة كسياط ضد منتقديها.
ويرى وارنر أن السن يؤدي دوراً أيضاً في موقف المجلس الحالي، إذ إن متوسط أعمار منتسبيه يبلغ تسعة وستين أو سبعين عاماً، بينما مجلس العموم، ذو الموقف الداعم للفلسطينيين، أصغر سناً. وهو ما يفسّره زيادة الدعم الشعبي للفلسطينيين في السنوات الأخيرة، وظهور جيل جديد مؤيد لحقوقهم. وهو أيضاً ما يعكسه اعتراف مجلس العموم بدولة فلسطين قبل عامين، وإن كان غير ملزم للحكومة البريطانية.

كذلك يؤدي الانتماء الحزبي دوراً هاماً أيضاً في الموقف من فلسطين، فأحزاب المعارضة الحالية، وهي العمال والخضر والأحرار الديمقراطيون، تدعم الاعتراف غير المشروط بالدولة الفلسطينية، وفقاً لفنسنت فين، القنصل البريطاني العام السابق في القدس.
ويتخذ حزب العمال بقيادته اليسارية الحالية موقفاً واضحاً في دعم الفلسطينيين وذلك رغم الاتهامات المتكررة بمعاداة السامية. فقد قرر رئيس الحزب، جيرمي كوربن، عدم حضور الاحتفالات بذكرى الوعد المئوية هذا العام. كما أنه، وفي سابقة من نوعها، تحدث لصالح الفلسطينيين في مؤتمر حزبه العام الذي عقد في مدينة برايتون قبل شهرين.
أما حزب المحافظين الحاكم، فيعتبر من أصدقاء إسرائيل، إذ يتغلغل فيه نفوذ اللوبي الصهيوني، نتيجة لارتباطه بجماعات الضغط ذات العلاقة برؤوس الأموال والأعمال، والتي تجد مصالحها مع دولة الاحتلال، أو بسبب توجهها اليميني، والذي غالباً ما يتوافق مع الرؤية الإسرائيلية للسلام في المنطقة.


تيريزا ماي وبنيامين نتنياهو في لندن في فبراير 2017 (بيتر نيكولاس/فرانس برس)

أما من الناحية الشعبية، فقد بدأ يظهر تحول في الرأي العام البريطاني لصالح الفلسطينيين منذ الثمانينيات من القرن الماضي، كنتيجة للمآسي التي تعرضوا لها في لبنان، إضافة إلى الصور الآتية من فلسطين خلال الانتفاضة الأولى، وهو ما أكد عليه البروفسور في جامعة بيت لحم، مازن قمصية، في حديثه مع "العربي الجديد".

ويقوم قمصية، وهو المدافع عن حقوق الإنسان في فلسطين، ومدير متحف التاريخ الطبيعي في فلسطين، حالياً بجولة في بريطانيا بدعوة من حملة التضامن مع فلسطين. وتهدف زيارته إلى التحدث للشعب البريطاني عن الوضع في فلسطين، خصوصاً في الذكرى المئوية لوعد بلفور.
ويرى قمصية من خلال زيارته تغيراً جذرياً عن الوضع قبل ثلاثة عقود، عندما زار بريطانيا لأول مرة. فهو يظن أن الشعب البريطاني يريد أن يسمع أفكاراً جديدة، والوصول للحقيقة في ما يخص فلسطين. وعلى الرغم من دعم الحكومة والإعلام والشركات البريطانية لإسرائيل، فإن المواقف الشعبية قد تغيرت نظراً لدور وسائل التواصل الاجتماعي.

ويضيف قمصية أن كمية الحضور والأسئلة التي تلقاها في جولته تنم عن روح إيجابية تعكس نمو الدعم الشعبي البريطاني للقضية الفلسطينية، والذي وصل لذروته في خروج نحو مائة وعشرين ألف بريطاني إلى شوارع العاصمة لندن احتجاجاً على العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014.
ويفسر قمصية هذا الأمر بأن قضية فلسطين قضية يسهل شرحها للجمهور وهي قضية استعمار أرض وطرد شعبها. وبالتالي يأتي الدعم الشعبي البريطاني من جهة معاداة السياسات الاستعمارية للاحتلال وقمعه للفلسطينيين، أو من ناحية حقوق الإنسان والانتهاكات التي يتعرض لها الفلسطينيون، ما يثير تعاطف الشارع البريطاني معهم. 


البروفسور في جامعة بيت لحم مازن قمصية /العربي الجديد 


وتتفق البارونة جيني تونج مع هذا الرأي، إذ ترى، في حديثها مع "العربي الجديد"، أن المقاومة السلمية الفلسطينية تشد الرأي العام البريطاني وتزيد تعاطفه مع الفلسطينيين. وتعتقد تونج، وهي رئيسة حملة الاعتذار عن بلفور، أن الجالية الفلسطينية في بريطانيا تحتاج لأن تؤدي دوراً أكبر في دعم فلسطين، من خلال الانخراط في الحياة السياسية البريطانية، وهو سبب نجاح اللوبي الصهيوني.  

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى تأييد الجاليات العربية والمسلمة في بريطانيا لفلسطين، ودورها في تحول الرأي العام البريطاني. فالجاليات تشارك بكثافة في الفعاليات المناصرة لفلسطين، التي تؤدي دوراً مركزياً في هوية أبناء هذه الجاليات المولودين في بريطانيا. بل إن فنسنت فين يرى أن التدخل البريطاني لوضع حل عادل للقضية الفلسطينية هو أمر داخلي بريطاني، إذ إن الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون يساهم في دفع بعض البريطانيين إلى التطرف.
وبالطبع، يساهم الإعلام بشكل أساسي في صياغة الرأي العام البريطاني. وتقف العديد من المؤسسات الإعلامية في بريطانيا وراء الدعاية الإسرائيلية، ومن بين هذه المؤسسات صحف التايمز والصنداي تايمز والصن والتي تعد من بين أكثر الصحف البريطانية انتشاراً. تعود ملكية هذه الصحف، ذات التوجه اليميني بشكل عام، بالإضافة إلى شبكة سكاي التلفزيونية، إلى الملياردير روبرت مردوخ. يعد مردوخ أحد أهم الأقطاب الإعلامية البريطانية ويمتلك ما لا يقل عن أربعين في المئة من الإعلام البريطاني.
أما المؤسسات الإعلامية الأخرى، مثل "بي بي سي" وشبكة آي تي في وصحف أخرى مثل التايمز وديلي ميل وغيرها، فتلتزم خطاً تحريرياً موالياً لإسرائيل، إما بسبب سياسات طاقمها الإداري والتحريري، أو بسبب المخاوف من الاتهام بالانحياز أو معاداة السامية.
لكن تعاظم دور وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة قد قوض من دور الإعلام التقليدي، خصوصاً من حيث صفته اللامركزية. فيمكن للأصوات المناصرة للفلسطينيين الوصول مباشرة للشعب البريطاني من دون المرور عبر السياسات التحريرية لوسائل الإعلام التقليدية، وهو ما يفسر أيضاً انتشار الدعم بين جيل الشباب.
وفي نهاية الأمر، بالتأكيد بريطانيا لم تعد الإمبراطورية التي احتلت فلسطين ووعدت بإعطاء أرضها للحركة الصهيونية قبل مائة عام. فقوتها الدولية اضمحلت، وتضربها عواصف بريكست من كل صوب. ولذلك على بريطانيا، في أقل تقدير، مسؤولية أخلاقية بتصحيح خطئها بحق الشعب الفلسطيني، سواء من حيث الاعتذار أو الاعتراف بدورها في المآسي الفلسطينية أو من خلال ضمان حقوق الشعب الفلسطيني التي ذكرها وعد بلفور، وهذه الخيارات بمجملها بعيدة أشد البعد عن "الفخر" الذي تتباهى به حكومة تيريزا ماي. 

المساهمون