برتوكولات الحكيمة هيلاري

برتوكولات الحكيمة هيلاري

27 اغسطس 2014

هيلاري كلينتون في حفل توقيع كتابها في لندن (3يوليو/2014/Getty)

+ الخط -


كان كتاب "برتوكولات حكماء صهيون" ملجأ كثيرين من العجزة فكرياً، إذا ما أرادوا التعامل مع الظاهرة الصهيونية، أو تفسير السلوك الإسرائيلي. وأذكر أنه كان لدى الدكتور، عبد الوهاب المسيري، موقف حاد منها، ووصفها في واحدةٍ من حواراته بأنه " وثيقة مزعومة مضحكة ولغتها طفولية". وكان، رحمه الله، يلخص تقييمه كتاب البرتوكولات بأنه "يفسر كل شيء، وما يفسر كل شيء لا يفسر شيئاً على الإطلاق".

واليوم، يأتي كتاب هيلاري كلينتون، "خيارات صعبة"، بمثابة ملجأ للعجزة فكرياً من الصحافيين والسياسيين، لإرجاع ما يتوهمه عقلهم إليه من دون قراءته. و"برتوكولات هيلاري"، اليوم، تفسر كل شيء، وستريح علماء السياسة والاجتماع المشغولين بظاهرة الربيع العربي، والثورات، والثورات المضادة، والدولة العميقة. وستجد تفسيراً جامعاً مانعا لتنظيم داعش وكيف نشأ، بل ستجد اعترافاً لا يقبل التشكيك بأن الولايات المتحدة الأميركية أنشأت داعش. وإذا كنتَ من شبيحة الأسد فستجد ضالتك في "البرتوكولات المتخيلة"، لتتهم الثورة السورية بأكثر مما يحويه معجم "الممانعة" على هذا الصعيد، وإن كنت ممن يتبنى الرواية الإيرانية لما يحدث في المنطقة، فستلجأ إليه أيضا، و"ما إلك إلا هيلاري"، كما فعلت محطاتٌ فضائية جهاراً نهاراً ونقلت عن الكتاب المتخيل: "المخطط كان يرمي إلى اعتراف أكثر من 112 دولة حول العالم بالدولة الإسلامية، لحظة إعلان ولادتها. لكن حسابات الحقل لم تتفق مع حسابات البيدر، فالممارسات الوحشية، التي قام بها داعش، أحرجت الإدارة الأميركية على ما يبدو، فتراجعت عن الاعتراف بشرعية هذا التنظيم."

وإذا كنت ممن يعانون من كراهية مفرطة للإخوان المسلمين، بسبب أو من دون سبب، فلا تحزن. ستجد ضالتك أيضاً. وإذا كنت من مؤيدي عبد الفتاح السيسي، فأبشر، فهيلاري ستحدثك عن "بطولات السيسي الدكر"، وأسره قائداً من الأسطول السادس الأميركي، بل وتهديده أوباما. ومن كثرة ما عددت هيلاري، وهولت من مصاب حكومتها أمام "شجاعة السيسي"، فالطريق ما زالت طويلة أمام إعلامٍ بات يحترف الكذب، ولذلك، لن يسكت عن الكلام، ولو طلع ألف صباح.

ومن الطريف ملاحظة أن هيلاري، حسب رواية إعلاميي السيسي، استخدمت في كتابها اللهجة المصرية، فقالت مثلا: "إلا مرسي.. إياك مرسي"، كما ينقل الصحافي المصري، محمد الغيطي، الذي من المؤكد أنه لم يقرأ كتاب هيلاري، بل تخيّله.

وفي سوق التزوير هذا، من المؤسف أن تجد صحفاً ومواقع إخبارية لها سمعتها وتاريخها تنجر وراء مفردات مثل: هيلاري تفجر مفاجأة من العيار الثقيل.. هيلاري تعترف.. هيلاري تكشف.. هيلاري تفضح الإخوان. ولأن كتاب هيلاري بحر لا ينضب، فسيجد فيه الفريق، الذي يشن حربا إعلامية بلا هوادة على غزة وحركة حماس اليوم، ضالته قريباً، وسيقدم "الدليل والبرهان "على أن قادة حماس، الذين استشهدوا أخيراً، متورطون في قتل الجنود المصريين. وربما يكون تصريح كلينتون أخيراً أن "على حماس أن تعلم أنها الآن معزولة.. مصر من جهة وإسرائيل من جهة أخرى .. يجب الضغط عليها لتعلم أنها ستخسر"، مفيداً على هذا الصعيد، ويطلق شرارة الإبداع لقصص مختلقة جديدة على لسان هيلاري، الغاضبة من حماس، كما النظام المصري.

وفي "هوجةٍ" كهذه، تغيب كل المعايير المتعلقة بالدقة، والتحقق من صدق الخبر واستقاء المعلومة من مصادرها الرئيسية، والتي من قواعدها التي تُدرس في كليات الإعلام ومعاهد الصحافة، وتضعها المؤسسات الصحافية المحترمة في دليل سياستها التحريرية، ضرورة التأكد من الخبر من مصدرين، إن لم يكن أكثر.

وليس جزافاً القول إن الكذب صار مقصوداً في العمل الإعلامي، ويوظف لغايات الصراع السياسي وغير السياسي، وما قصة "جهاد النكاح" بعيدة، فقد جرى اختلاق القصة وترويجها شرقاً وغربا، وانتشرت مثل النار في الهشيم، من دون رواية صلبة واحدة تثبت ذلك.

ولا تقف المسألة عند الصحافة، بل وصلت إلى باحثين وأساتذة جامعيين، فتجد أستاذاً في العلوم السياسية يضع مما جادت به المواقع الإلكترونية من "برتوكولات هيلاري" على صفحته على "فيس بوك"، بل ويجادل في صحتها، فهل هذه المعرفة التي ينقلها إلى طلابه، وهذه هي الطريقة التي يعلمهم بها كيفية النظر إلى الظواهر السياسية والاجتماعية.

لطالما كان يستوقفني التعبير المصري "همبكه"، وأجده، اليوم، بليغاً جداً، فما يمارسه جُل إعلاميي السيسي هو الـ"همبكه"، ويشاركهم في ذلك إعلاميون من خارج المنظومة، كل حسب المصلحة.

D33FFFA6-99D5-41B4-8A40-51AF778ACB34
فاطمة الصمادي

باحثة مختصة بالشأن الإيراني في مركز الجزيرة للدراسات، حاصلة على الدكتوراه من إيران عن رسالتها حول المضامين النسوية في سينما المرأة الإيرانية. لديها كتب وأبحاث من أبرزها "التيارات السياسية في إيران".